التخطي إلى المحتوى الرئيسي

16















 السيرة الباقية لجبرا إبراهيم جبرا

_ كتبتُ بعد قراءتي لـ ( البحث عن وليد مسعود ) بأنها الرواية  التي لا تبدأ بقراءاتها بعد أول صفحة بل بعد إنهاء الصفحة الأخيرة، إنها رواية تنغرس في عقلك الباطن إن قرأتها مرةً واحدة فقط، فتفكر فيها وأنت ستنام، وأنت في الحلم، وأنت تقرأ، وانت تثرثر مع أسرتك ، إنها شبحٌ من سطور ينطرح على جثة عقلك فيغشاها تماماً .

***
كنتُ أبحث عن المؤلف في وليد مسعود، أتقصى بقية القصة الحقيقية لجبرا ، كتب جبرا كتابين وخصهما بتصنيف السيرة الذاتية : " البئر الأولى " ، " شارع الأميرات " وما الكتابين إزاء الحياة الطويلة الكثيفة التي عاشها هذا الفلسطيني المتوقد الذكاء ؟ كُنتُ نهمة بعد قراءة السيرة وكانت روايته والتي أدرجت ضمن أفضل مئة رواية عربية تتكيء على الرف .. كيف يمكنني مقاومة القراءة له مرةً ثالثة ؟ كيف يمكن أن اتخطاه ؟!
بالطبع قرأتها وبدأتُ حكاية أخرى معه ....

***
دائماً حين نقرأ نسقط شخصية الرواية على شخصية كاتبها، وهو خطأ قرائي ولا شك ... الكاتب يكتب نفسه حقاً، لكنه يحاول تكبيل هذه الفضيحة بصنع متاهات أثناء رسمه للشخصية ، فيبدأ القارئ في مساءلة نفسه : هل هو حقاً ؟ أم آخرٌ خلقه الكاتب أو صادفه في إحدى أزقة الحياة فقصَ علينا قصته ؟
نجيب محفوظ كان يبدو كمرآة حبرية عكست لنا كل الحيوات التي مر بها، عاملُ المقهى، الفتوات، الراقصة، الخادمة، السكير، الموظف المصري، المهرج، المخمور، نجيب محفوظ، إلخ إلخ ....
فرانز كافكا كان يضع الطعم فيلتقطه قارئه، يضع إسماً لبطله يماثل جرس إسمه اللفظي، مدينته هي مدينة فرانز، ويقطن في ذات الشقة التي تطلُ على النهر، يحبان إمرأةً لها ذات الأحرف الأولى، ولهما أبٌ متسلط متعجرف .. لكن إن كنت قارئاً جيداً ستدرك أن ذلك ليس بكافكا وإنما ماكان يريد أن يكون عليه كافكا، أو المصير المتخيل له كما كتب في الإنمساخ .
جبرا و وليد تشابها في الأسم الأخير : مسعود، كلاهما فلسطيني من بيت لحم، كلاهما عاش أغلب عمره في بغداد، كلاهما قارئ وكاتب.. لكن هل جبرا هو وليد ؟
بإمكاني أن أقول نعم هو جزء من جبرا بالتأكيد، هو ما أراد أن يكونه وما أراد أن يفعله خصوصاً في الجزئية المتعلقة بمقاومته ضد إحتلال فلسطين، أو لعلها الحياة السرية الأخرى لجبرا.. العربي الضائع، زير النساء، الذي اختفى وهو يؤدي عملية فدائية .
وليد مسعود شخصية حقيقية، وليست مجرد نتاج روائي خصب، بكل تلك التعرجات والتناقضات النفسية والتي حملها جسده القوي، بكل مبادئه الشاذة وهروبه وعلاقاته، كان يجسد شخصية الفلسطيني في العصر الحديث الذي حمل لواء قضيته وحده، كان يجسد العربي الباحث عن وجوده، مابين وجود من خلال النساء وهيمنته على قلوبهن، ومابين تشبثه بقضية أدبية قد تكون خاسرة منذ البداية .

***
من الرائع حقاً ان تقرأ روايةً كتبها شاعر، وهذا ماتميز به أسلوب " البحث عن وليد سعود "، حيثُ سلاسة الألفاظ دون تنميق بغيض، وحيث المفردات الرائعة، الرائقة والتي تجعل صورة كُلِ تفصيل في الرواية جليه وكأنها مشاهدة .
بنى جبرا الرواية بشكلٍ فني ذكي، حيث إجتمعت المرويات عن وليد مسعود في حين كشف للقارئ منذ البداية إختفائه الغامض ورمى في عقله رسالة صوتية له كان يتدفق فيها بالكلمات غير المترابطة كأغنية بائسة طويلة، كان يتذكر .. يذكر كل النساء اللاتي أحبهن، يصفهن بغزلِ فاحش، ويتهدج صوته ببكاء خفيف تجعل القارئ يحس بأن كل نساء الأرض كُن أمهات له، فهو في غراميته لم يبحث إلا عن الأم، والوطن ...

***
يصفُ بورخيس إعادة القراءة ممارسة متفوقة على القراءة، وهذا مايجب أن يحدث مع وليد مسعود، فهذه القراءة هي خطوطٌ أولية لقراءات متكررة، علنا نفهم ما أراد قوله وليد مسعود قبل أن يختفي .




تعليقات

  1. جــمــيــل :)
    لم أقرأ له من قبل لكننى الآن تحمست لذلك ^^

    ردحذف
  2. أجزم أن الندم لن يتسلل لك وأنت تقرأي لجبرا..
    سعيدة أن عرفتك عليه :)

    ردحذف
  3. حقق الاستفادة القصوى من الإنترنت مع حلول Load Balancing

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...