السيرة الباقية لجبرا إبراهيم جبرا
_ كتبتُ بعد قراءتي لـ ( البحث عن وليد مسعود ) بأنها الرواية التي لا تبدأ بقراءاتها بعد أول صفحة بل بعد إنهاء الصفحة الأخيرة، إنها رواية تنغرس في عقلك الباطن إن قرأتها مرةً واحدة فقط، فتفكر فيها وأنت ستنام، وأنت في الحلم، وأنت تقرأ، وانت تثرثر مع أسرتك ، إنها شبحٌ من سطور ينطرح على جثة عقلك فيغشاها تماماً .
***
كنتُ أبحث عن المؤلف في وليد مسعود، أتقصى بقية القصة الحقيقية لجبرا ، كتب جبرا كتابين وخصهما بتصنيف السيرة الذاتية : " البئر الأولى " ، " شارع الأميرات " وما الكتابين إزاء الحياة الطويلة الكثيفة التي عاشها هذا الفلسطيني المتوقد الذكاء ؟ كُنتُ نهمة بعد قراءة السيرة وكانت روايته والتي أدرجت ضمن أفضل مئة رواية عربية تتكيء على الرف .. كيف يمكنني مقاومة القراءة له مرةً ثالثة ؟ كيف يمكن أن اتخطاه ؟!
بالطبع قرأتها وبدأتُ حكاية أخرى معه ....
***
دائماً حين نقرأ نسقط شخصية الرواية على شخصية كاتبها، وهو خطأ قرائي ولا شك ... الكاتب يكتب نفسه حقاً، لكنه يحاول تكبيل هذه الفضيحة بصنع متاهات أثناء رسمه للشخصية ، فيبدأ القارئ في مساءلة نفسه : هل هو حقاً ؟ أم آخرٌ خلقه الكاتب أو صادفه في إحدى أزقة الحياة فقصَ علينا قصته ؟
نجيب محفوظ كان يبدو كمرآة حبرية عكست لنا كل الحيوات التي مر بها، عاملُ المقهى، الفتوات، الراقصة، الخادمة، السكير، الموظف المصري، المهرج، المخمور، نجيب محفوظ، إلخ إلخ ....
فرانز كافكا كان يضع الطعم فيلتقطه قارئه، يضع إسماً لبطله يماثل جرس إسمه اللفظي، مدينته هي مدينة فرانز، ويقطن في ذات الشقة التي تطلُ على النهر، يحبان إمرأةً لها ذات الأحرف الأولى، ولهما أبٌ متسلط متعجرف .. لكن إن كنت قارئاً جيداً ستدرك أن ذلك ليس بكافكا وإنما ماكان يريد أن يكون عليه كافكا، أو المصير المتخيل له كما كتب في الإنمساخ .
جبرا و وليد تشابها في الأسم الأخير : مسعود، كلاهما فلسطيني من بيت لحم، كلاهما عاش أغلب عمره في بغداد، كلاهما قارئ وكاتب.. لكن هل جبرا هو وليد ؟
بإمكاني أن أقول نعم هو جزء من جبرا بالتأكيد، هو ما أراد أن يكونه وما أراد أن يفعله خصوصاً في الجزئية المتعلقة بمقاومته ضد إحتلال فلسطين، أو لعلها الحياة السرية الأخرى لجبرا.. العربي الضائع، زير النساء، الذي اختفى وهو يؤدي عملية فدائية .
وليد مسعود شخصية حقيقية، وليست مجرد نتاج روائي خصب، بكل تلك التعرجات والتناقضات النفسية والتي حملها جسده القوي، بكل مبادئه الشاذة وهروبه وعلاقاته، كان يجسد شخصية الفلسطيني في العصر الحديث الذي حمل لواء قضيته وحده، كان يجسد العربي الباحث عن وجوده، مابين وجود من خلال النساء وهيمنته على قلوبهن، ومابين تشبثه بقضية أدبية قد تكون خاسرة منذ البداية .
***
من الرائع حقاً ان تقرأ روايةً كتبها شاعر، وهذا ماتميز به أسلوب " البحث عن وليد سعود "، حيثُ سلاسة الألفاظ دون تنميق بغيض، وحيث المفردات الرائعة، الرائقة والتي تجعل صورة كُلِ تفصيل في الرواية جليه وكأنها مشاهدة .
بنى جبرا الرواية بشكلٍ فني ذكي، حيث إجتمعت المرويات عن وليد مسعود في حين كشف للقارئ منذ البداية إختفائه الغامض ورمى في عقله رسالة صوتية له كان يتدفق فيها بالكلمات غير المترابطة كأغنية بائسة طويلة، كان يتذكر .. يذكر كل النساء اللاتي أحبهن، يصفهن بغزلِ فاحش، ويتهدج صوته ببكاء خفيف تجعل القارئ يحس بأن كل نساء الأرض كُن أمهات له، فهو في غراميته لم يبحث إلا عن الأم، والوطن ...
***
يصفُ بورخيس إعادة القراءة ممارسة متفوقة على القراءة، وهذا مايجب أن يحدث مع وليد مسعود، فهذه القراءة هي خطوطٌ أولية لقراءات متكررة، علنا نفهم ما أراد قوله وليد مسعود قبل أن يختفي .
جــمــيــل :)
ردحذفلم أقرأ له من قبل لكننى الآن تحمست لذلك ^^
أجزم أن الندم لن يتسلل لك وأنت تقرأي لجبرا..
ردحذفسعيدة أن عرفتك عليه :)
حقق الاستفادة القصوى من الإنترنت مع حلول Load Balancing
ردحذف