التخطي إلى المحتوى الرئيسي

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ،
حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة
السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه
دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول
بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى
منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين
بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة...
أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟
لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر
لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش ..
أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن على حرارتهما ، سمعته ينادي با لإنجليزية ، أحسست بيدين تجرني
بعناية ودراية ، و أخرى بيدين صغيرتين تمسك كتفي الضامرتين ، عرفت أنها إمرأة ، لقد أنغرس في لحمي المتهتك
أظا فرها الطويلة ، لابد وأنها طلتهما بالأحمر .. كم تعشق النساء ذاك اللون !!
سحقاَ لخيالات رجلٍ مريض ... تشممت الهواء اللاذع برياح السموم الحارة ، وهم يدفعونني إلى الأمام ...
صوت العجلات المطاطية وهي تحتك بلأرضية الرخامية يصل سمعي المرهف ... ترى كم تساوي قوة الإحتكاك ؟؟
تباً للعلوم ، لازالت مُصّرّة على تهييجي حد البكاء ، وأنا لم أرّ رجُلاً يبكي بعينين مصمغتين !..
تتسلل إلى أنفي رائحة الكلوركس الممزوجة بالكحول ، عرفت حينها أني في المشفى _ وفي قسم الإسعاف بالتحديد _
لإني سمعت صوتاً نسائياً أعجمياً يصرخ بنزق : ( بليس إنتظر دورك )!
سمعت سعيد ، كان صوته مبحوحاً يقطر ذبذباتٍ دامعة ، كان يقول أني مريض بالسرطان ، وأني سقطت على بلاط الحمّام متقيئاً دمّي ،
وأن أنفي سال بالدم أيضاً .. دفعوني بسرعة ، أحسست بجسدي يُحملّ مرة أخرى ، ليوضع على إسفنجٍ قاس ٍ ، غرسوا في
أوردتي الإبر حتماً ، لإني شعرت بقرصة عميقة في ذراعي ، فشلت حنجرتي اليابسة في ترجمتها إلى صرخة ، سمعت طنيناً
وأيادي تعبث بصدري العظمي ، ووجهي المُغطى بدمٍ جاف ، أحسست بظلامٍ بغتة يهاجمني ، ويكتسح بقايا الحضور المشلول ليّ ،
و .. غِبتُ عن الوعي .

أخيراً زال الصمغ ! هاجمني بياضٌ شاهقٌ لثوانٍ ، بعدها ميزت سعيد وهو يقرأ جريدة ، أزاح الجريدة ونظر لعينّيّ للحظات..
قبّل رأسي ودمعةٍ متحجرة تسقط على جبهتي ، ثم فر خارجاً بدموعه ..
كان تفحص المكان الذي أنا فيه هو العمل الممكن لي ، دققت النظر في الأجهزة وفي الأرقام المسجلة فوق شاشاتها البلورية ،
نظرت إلى الجدران الحليبية المريضة ، أسبلت جفنيّ متعباً من لونها الفارغ الميت ، فتحتهما مرة أخرى لأرى طبيباً فوق رأسي
يرتدي ذات اللون الميت ، ويقرأ ضغط دمي في الجهاز ..
إبتسم ، قال :
كيف حالك يا عم ؟؟
بالكاد خرجت :
الحمد لله .
قال وهويسجل معلوماتي على ماأظن في ورقة :
حالك أفضل لكنّك بحاجة إلى المكوث في المشفى ، وأنت ترقد الآن في قسم الإسعف ، ولا يوجد لك سريرٌ في قسم التنويم ..
حدّقت فيه وكأني لم أسمع ولم أفقه ما قال ..
وهو، قال مغادراً وظهره أمامي :
آسف ياعم ، لايوجد لك سرير .. يجب أن تخرج !
خلت الحجرة، أتتني ممرضة فلبينية، أخذت تنزع المغذيات الوريدية، قلت لها بصوتٍ متحشرج :
أريد مقص .
نظرت إلي بقدر كبير من التقزز والخوف ...
كررت :
مقص ، أريد مقص ..
غادرت الحجة ودفعت عربة الأدوات الطبية بيديها الثلجييتين ، أغمضت عيني ، شممت رائحتها العطرة
تنطق بالموت ، فتحتهما ثانية ،وضعت في كفي مقصاً بارداً ، وغادرت الحجرة ..
عاد سعيد معه ثيابي ، قبضت على المقص مخفياً إياه وهو يُلبّسني ، كدت أقول له لا تضع شماغي فوق رأسي ،
خذه لك ، فقد عزِمّتُ أن أُقَطَعَنّي إلى أجزاء كثيرة وأنت تقود السيارة ، وأتلاشى من النافذة فذلك أيسر من إيجاد سرير !!


ٌ

تعليقات

  1. صراحه يافاطمه...

    أقصوصة مصطبغة بالرعب والانهزاميّة والصدمة ...وقد تجلّى ذلك في بعض المفردات والحوارات التي تمّت بين الابطال..انتي معي في ان الاقصوصات او الأدب-اي الشعر والنثر- بكافّة الوانه وفروعه قد يعكس شعور الكاتب او معاناته
    او قلقه او..ألخ...ثم تُترجم الى نص ادبي وكأنّها مُتنّفس لكاتب عمّا يختلج في نفسه من انفعالات ..ولهذا فإنّ أصحاب الجنون الداخلي...


    عماد...
    يرتاحون كثيرا حين يفرّغون انفعالاتهم عبر الكتابة...

    عموما:نص جميل جدّا..موفّقة..

    عماد:al-mosalem@hotmail.com

    ردحذف
  2. وترقّبي تعقيبي المستفيض...

    عماد

    ردحذف
  3. عزيزتي....يعاتبك قلبي فيقول: لم كل هذه السوداوية؟ولكن عقلي يعاتبني أنا فيقول: أننا لا نستطيع تجاهل السواد الذي قد يخيم على فضاءاتنا بطريقة او بأخرى,ولكن دعينا نحاول ان نختلس البياض حتى وان شحت به الأيام..

    ردحذف
  4. عماد :
    حياك الله ، أسعدني تعليقك.. وكلامك أعجبني وإن صبغني بالسوداوية ....
    أنتظر إستفضاتك ^ ـــ ^

    ردحذف
  5. العزيزة جميلة :
    سرتني الزيارة المباركة ، وتعليقك المميز ....
    عتاب قلبك أقول له : أن هذه لحظة مررت بها وعمل خيالي على تصويرها بصورة حكاية ، هي نقطة في بحر حياتنا هي قصة مررت بها حقيقة ، ونمت في خيالي وغرستها في تربة المدونة حكاية كاملة ..
    أعدك يا عزيزة بالبياض في قادم الأيام ، ولكن ما رأيك بالقصة من ناحية فنية نقدية ..
    أنتظر ردك يا غالية ^ ــــــ ^

    ردحذف
  6. قصة رائعة
    سلمت أناملك الذهبية

    ردحذف
  7. وسلمت عيناك الجميلة !
    لا تقاطعينا نحن في بهجة لوجودك ^ ــــ ^

    ردحذف
  8. الرخص وخدمات الكلاود Cloud licence خدمة تقدمها شركة مدن الاتصالات بصفتها موزع ووكيل لكبري العلامات التجارية المعروفة علي مجموعة من المنتجات و أجهزة IP PBX المتوفرة بمتجر مدن الالكتروني.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...