التخطي إلى المحتوى الرئيسي

12




أجبرني جبرا إبراهيم جبرا على البدء في روايته : " البحث عن وليد مسعود " رغم إتخاذي قراراً سابقاً بالإبتعاد قليلاً عن سحر إبن بيت لحم بعد قراءة سيرته " البئر الأولى "، لكنّ لمّ أقدر .. هزمني هذا الفلسطيني وهو تحت التراب .

***
العوالم الجديدة ... الرائحة العابقة بزيت الزيتون الطازج وقرع كنيسة بيت لحم، إنها فلسطين عبر بوابة سيرة جبرا " البئر الأولى " .. أدلفها أول مرة معه، قرأت قبلاً في أثر الفراشة لدرويش الأبيات التي لها صوت رصاص ورائحة دم، ثُم نصه النصل : " في حضرة الغياب " المملؤ بأوجه العابرين والمسافرين والباقين والمنفيين .. لكنّ غاب الوطن، غابت فلسطين من نصه وإن جاءت سطوره حارقة عن عكا وغزة والقدس ونابلس .. جاءت مشتاقة شوق المنفي من بعيد .
لذا كانت ببهجتي مغايرة وانا أقرأ السيرة الروائية لجبرا، لإن نفسه الروائي المتماسك وذكرياته الغزيرة عن وطنه جعلتني حقاً في بهجة تزورني اول مرة وكاني حقاً في بيت المقدس أسمعُ أصوات المآذن وقرع الكنائس، أرى أشجار الزيتون الشامخة وثمار الزعرور الصغيرة الشهية، أرى خرزة البئر في كُلِ دارٍ جديدة يسكنونها .. أعيش موسم قطف الزيتون المسمى بـ " الجداد "، وتتجدد الصور في ذهني حتى أنّي أرى ذوبان قرص الشمس في سفح جبل خريطون المقطوم أعلاه .
***
كانت جارتي في الشقة المقابلة " ام سلطان " من نابلس، فلسطينية هادئة، سيدة كريمة تغمرني بالزيتون ثمراً وزيتاً ،وأوراق الزعتر ومسحوقه بعد كُل صيف حين تعودُ من فلسطين .. حتى بعدما انتقلت لبيتٍ أفسح من الشقة المحكورة بغرفٍ ضيقة والخالية من أي فناء، لازالت تتصلُ بي تسألني إن رغبتُ بزيتِ الزيتون، وتسألُ عن أحوالي... زارتني قبل مدة قريبة وقد جلبت معها الزيت المبارك ومسحوق الزعتر وأوراقه المجففة، أتذكرها كُل صباح إن صنعتُ لي رغيفاً شهياً بالزيتَ والزعتر ... هذا الزعتر الذي أهدتني إياه لمّ أذق له مثيلاً في حياتي، له حموضة طازجة ورائحة مركزة زكية، وحين أخبرتها بعد ذلك في الهاتف وشكرتها على هديتها قالت : أكيد بدو يصير كثير طيب .. أكيد لإنو من فلسطين .
***
البئرُ الأولى تفوحُ برائحة زعتر " ام سلطان " وذكريات جبرا الطفل، أتخيلُ والده بعدما مرض بشاربه المفتول ووجهه الوسيم وقامته الفارعة، اتخيلُ مشيته العرجاء وهو يلاحق كفر السيارة الذي أضاعه جبرا حين أراد مساعدة والده في أحد الأعمال، فضاعف على رجله العليلة الجهد بمطاردة الإطار الشيطاني بعدما انفلت من يديه بخبثٍ لا تمارسه الجمادات .. كان موقفاً مضحكاً ومحزناً في الوقتِ ذاته ... الصورة الديناميكية لمطاردة الإطار من قبل الإبن والأب كانت باعثة على الضحك،  وعلى النقيض الصورةُ الحزينة : لهاث الأب الأعرج ودموع الإبن المتحجرة خوفاً من تكبد قيمة الإطار الملعون إن ضاع ، ثمَ حنانُ الأب وهو يربتُ على رأسه بعدما أمسك بالإطار قائلاً : " له يازلمه ! مش عيب؟ أنا أبوك، ولوّ !" .. ويكركر ضاحكاً ...
***
في هذه السيرة جبرا يُطلعنا على قصصٍ زاخرة وحواديتَ من ألف ليلة وليلة، جبرا يغوصُ بنا في عمق تجاربه الحياتية رغم حداثة سنه .. يقصُ علينا قصة تعليمه وكيف دخل المدرسة، القراءات الأولى التي تبدأ بسير الأبطال الإغريق،وأوراقٍ من ألف ليلة وليلة سرقها أخوه يوسف من معلم البقالة حين كان صبياً عنده يلفُ بها الحلاوة والجبن، يقصُ علينا كيف تعلم الرسم وبرع فيه ونسخ نقوش المسجد الأقصى وهو صغير، في هذه السيرة نكتشفُ بذرة الكينونة التي زُرعت حتى غدا الفنان الشامل لكُل فنون الفن من كتابة ورسمٍ وشعرٍ وعزفٍ وترجمة، هذه السيرة جديرةٌ بأن تُقرأ .. هذه السيرة من أجمل وأكثر الكتب السيرية كمالاً .. فيها اجتمع زخم التجربة وقوة السبك وذكاء الراوي .... إنها سيرةٌ كاملة .
***
وجودُ رواية البحث عن وليد مسعود بالقربِ من رأسي حين أخلدُ للنوم .. على الكومدينو الذهبي، إغراءٌ لا يُقاوم ... إنها الكتاب الذي بين يدي الآن !

* اللوحة لجبرا بعنوان نساء فلسطينيات




تعليقات

  1. أحسدك على الدهشة ، واتذكرها جيداً، قبل أربعة أعوام تحديداً وصلت لجبرا، متأخرا خيرا من ألا أصل ابدا !
    التفكير في القراءة له من جديد، سيكون بمثابة البهجات المستعادة ، ساحر ساحر ..

    ردحذف
  2. أحبُ الصدف خاصة حين تتعلق بكتاب !
    أتذكرُ جيداً كيف تحركت أصابعي بإتجاه كتابه شارع الأميرات في جناح دارالآداب في المعرض، كُنتُ حينها منغمسة في حديث مع صاحب الدار العجوز الناقم أبداً .. ألتقطه مسحورة وممتنة له ولداره حين بحث لي عن قصص بو وقطه الأسود ووجدها، كُنتث ضائعة نعم .. لكن هذا الضياع والتخبط والإختبارات العشوائية تجاه الكتب لذةٌ مستديمة ..
    ساحرٌ بالفعل، ولازال جبرا يثثيرُ في الذكريات والزوابع ، تختلط الخطوط وانا أقرا له واتنهدُ بإستمتاع .. أتذكرث رأياً يقولُ أنه يتقاطع مع كافكا في رواياته .. أهزُ راسي بمزيدٍ من القناعة والفرحو واتمتم : " جبرا هو كاتبي المفضل أيضاٍ "
    شكراً لردك الملهم هيفاء ..

    ردحذف
  3. توفر شركة مدن الاتصالات العديد من الحلول التقنية لحماية تهديدات أمان الشبكة
    https://modn.com/ar/build-a-secure-and-reliable-network-for-your-business-why-and-how?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-101

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحر وكتاب وقمر

" لتبدأ الحياة كل يوم كما لوأنها بدأت للتو " غوته ( 1 ) الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر . ( 2 ) البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأق

هل ننجو من لعنة الفراعنة؟ إليكم ماحدث ..

مقولة مثل كل المقولات ! رماها أحدهم في الفضاء وتلقفتها الأفوه؛ لاكتها، عجنتها، تندرت بها، توجست منها، ثمّ: صدقتها . تلك هي حكاية لعنة الفراعنة باختصار ! منذ أن افتتح كارتر مقبرة توت غنع آمون وهناك من يؤمن بتلك اللعنة، وهناك من يضحك على من يؤمن بها … لعل ضحكه يدفع شراً ما، لكن الجميع يتفق على أنها ظاهرة غريبة ليس لها تفسير، أو قد تحمل تفسيراً أُوري في الخفاء كما يحدث مع ظاهرة موت لاعبي كرة القدم بالسكتات القلبية هذه الأيام :) ! لم يمت أحدٌ ممن اكتشفوا مقبرة (واح ـ تي) في نوفمبر  2018 ، وهو مسؤول كبير _ كاهن للسلالة الخامسة من أسرة الفراعنة _ ، حوت المقبرة عدة موميات لوالدة هذا الكاهن وأولاده وزوجته، إضافة لموميات لبوة وشبل أسد، حوت المقبرة قصة حياة " واح تي " وتاريخاً آخر لصراعٍ عاشه مع مواطن فرعوني آخر أراد أن يطمس حضوره بعد الموت واستولى على المقبرة عله يحظى بجنة (واح - تي) بعد الموت ! خلال ساعتان مركزة من السرد المرئي لاكتشاف غرفة  

ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة

  تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة!  تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟ بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة  بمثابة احتفال قرائي أختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، أسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي. مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل. في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة. فرانكشتاين في بغداد: اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد).  بدأت بها مساء يوم العيد بعد إرهاق التقبيل ا