التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كيفَ تُرتدى الأحذية ؟



دخل السوق لشيءٍ ما ونسيه، ورآها أمامه بحذاءها المقلوب وأصبح يفكر فيها، فجأة إمتد إنزعاجه من حذائها حداً لا يطاق وأصبح يسير خلفها في أروقة السوق وهمه الأوحد والأخير أن يصل لطريقة يعدل فيها حذائها .. وكأنما تلك المهمة هي المهمة الأخيرة في حياته ، يستكمل خطواته وأمامه تسير المرأة بشالها الملفوف حول رقبتها ورأسها وخصلات شعرها المنساب كماء علي ظهرها ، تتأرجح مؤخرتها النحيلة المشدودة تأرجحاً مدروساً، ويكاد يصرخ داخله كيف تتمكن من السير بثقة هكذا بهذين النعلين المقلوبين ؟ يكز على أسنانه ويجد في المشي ورائها ...تغوص داخل السوق  .. السوق حار وخانق وتلك اللعينة تمشي أمامه بنعلين متنافرين ، تتأرجح تفاحة آدم في عنقة ويستطعم ريقه المر العطشان،  ويزدرد عطشه ولا يستطيع بلع حنقه من المرأة التي تمشي بثقة بهذين النعلين  بل تتوقف أمام محل إكسسورات وتجرب الخواتم والأساور وتصطاد الخلاخيل وتقلبها بين يديها . يدعو الله أن تجرب خلخالاً لتنتهي هذه المعاناة ... سيصرخ قبل أن ترتدي الخلخال ويقول لصاحب الكشك نصف السكران أنّ نعليها معكوسان ويجب أن تعدلهما ... ترمي الخلاخيل بعصبية وتبصق على الرجل، لقد لمس يدها ... ليس ملوماً بالمرة ... فبلا ريب أن رسغيها لينان بضان كمنظر كاحليها من الخلف ... اللعنة علي هذه المرأة لماذا أتتت في طريقي هذا اليوم ؟ تصعد تلة السوق الشعبي وترفع تنورتها البنفسجية الطويلة لتتضح ساقاها المشدودان الممتلئان بإتساق مذهل وشهي، لكنه لايستطيع أن يوقف مخه للتفكير في هاته الساقين ... إن حذائها مقلوب! ... تقترب من بوابة السوق ..شعاع الشمس الغائب يوشوش نظري ونظرها فهي ترفع يدها اليسرى أمامام عينها وألمح إلتماع الذهب في بنصرها، مرتبطة إذن ! اللعنة عليها وعلى حبيبها الغبي الذي يعشق إمرأة ترتدي النعلين معكوسين .... لابد أن قدمها اليسرى تماثل اليمنى واليمنى تماثل اليسرى ! اللعنة كيف يمكن أن يصير ذلك! لاريب أنها مخلوقٌ شيطاني ، أو كائن فضائي متحور بشكل فتاة لايعرف الفرق بين الفردة اليمنى واليسرى !  ... تسري رعدةٌ غريبة فيّ ، تشبه إهتزاز الشرارات الكهربية وأحس بها حتى في أظافري، ويستحيل ريقي لكتلة يابسة كالعلقم والفتاة تروح وتجيء وتقهقه وهي تتكلم في الهاتف النقال ، وترمقني بخبث ... هذه الوقحة الوضيعة ... لقد دمرت يومي كُله ! أقترب منها إلا أن الرعدة تزاد شدتها، أتذكر وجود سيجارة في جيب القميص الأمامي وأشعلها، والرعدة  لا تفارق أصابعي الممسكة بالسيجار ولا شفتي النافثتان الدخان بقوة ظاهرية ... فيما ترتعد مفاصلي ومعدتي، وأحسُ قلبي يرتعد إرتعاداً جنونياً .... أحسم أمري وأتقدم منها وفي نفس اللحظة تتوقف سيارة رخيصة ، مدعوكة بالوسخ وينزل منها شابٌ أسمر يفوقني ب ٣٠ سينتيمتراً في الطول وتكلمه الفتاة وهي تُشير وتنظر إلي، وقبل أن يندفع والشرر يتطاير من عينيه أواصل خطواتي المهزوزة كمومياء وأصرخ كغراب حيث أن جفاف حنجرتي وصل حده الأقصى ، فأشير له و يدي تتخبط فيما هو يتقدم والزبد يتطاير من فمه وهو يقول " ماذا تريدُ منها ياكلب ؟ " .. وأُفلح في إخراج صوتٍ غريب له طعم الحديد الصديء : " حذائها معكوسان " وأشير لأقدامها ليلتفت مشدوهاً ليرى قدميها أخيراً ... أما أنا فلم أعلم سوى عن الدم المتدفق في حلقي، والسماء السوداء المشتعلة بألف نجمة منبثقةً في عينيّ، وصوت عظامي وهي تصطدم بالرصيف .

تعليقات

  1. أخت فاطمة يعطيكي العافية على كتاباتك الجميلة
    أتمنى أن أتواصل معك ضروري.. أنا صحفية من مجلة لها واعمل على تحقيق صحفي يخص المدونات واود أن تشاركيني برايك، تواصلي معي على الايميل azizah_1727@hotmail.com
    0556048676

    ردحذف
  2. تهيئة حلول الاتصالات VoIP في السعودية وأهميتها للشركات

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...