باموق هو الطفل الأصغر
أمامي ساعةٌ كاملة قبل الغوص في مهام إعداد وجبة الإفطار، ولا أزال أفكر:
أأقوم بالركض على الجهاز الرياضي أم أفتح جهازي المحمول وأحاول كتابة شيء ما عن باموق؟!
لا أعرف كيف أكتب ما أريد كتابته عنه وما أصبحتُ أفكر فيه بعد إنهائي كتاب المذكرات " أسطنبول الذكريات والمدينة " منطرحة على الأريكة بخمول، تتنازعني الرغبات بين المشي وباموق، وفكرة ما عن حساء الفطر وجبن الحلوم المشوي، وعدد الصراصير الوجودة في بالوعات البيوت، فيما أمامي على الشاشة فيلم كرتوني، وحولي ثلاثة صبيان يبدون كمصابين بغثيان الظهيرة .
أخذت أفكاري منحى متواتر ومستمر فيما يخصُ الكتابة، ولمعت في ذهني البداية ! ـ و هذه أهم النقاط للكتابة ـ بعدها يبدأ الإسترسال . تبدو فكرة تدفق الكتابة على عقلك كلعنة فراعنة ... فتتورط بالنهاية ! كيف تُنهي ما كُتب ؟
كُنت أكره أورهان باموق ، أعني أن كُرهي يتمثل لما يكتبه، قرأته للمرة الأولى في رواية الحياة الجديدة، وقلتُ لنفسي ماهذا الضياع المكتوب ؟ مالذي يريد الكاتب قوله لي ؟ لبرهة ما سخرتُ من موضوع حيازته لنوبل وأكملتُ الرواية على مضض ... وأخيراً بررت ضياع وملل الرواية بسبب الترجمة، وقلت لنفسي : سأمنحه فرصة أخرى *
أقلب أسطنبول الذكريات والمدينة .... رمضان ونهاره الطويل الرائق فرصة لتجربة القراءة ثانية لباموق. يتضح لي أنه مذكرات لباموق، وأنا أهوى قراءة مذكرات الناس . يزين صفحات الكتاب صورٌ فوتوغرافية رمادية لباموق وعائلته ، مع كُل صفحة أتوحد مع باموق الطفل واليافع المشتت بين بيتين وأبوين تحكمهما علاقة متوترة .. يتحدث باموق عنه وعن حياته في أسطنبول من وجهة نظر فريدة حقاً، يكتب عنها بتجلي نادر لما يمكن أن يحكم علاقة الناس بالمدن .... من يفهم علاقته بمدينته ؟ هه؟ من يملك القدرة علي التحليل ؟... وضعت نفسي مكان باموق : وحاولت كتابة شيء عن مدينتي ـ أسميها المدينة البرتقالية لإنها مضاءة دوماً بضوء برتقالي ممرض ـ تبدو علاقتي مع الرياض بلا علاقة ! كيف يمكن أن أبني علاقة مع مسخ الصحراء الممزوج بالزجاج والأسمنت وأرتال السيارات البلا حد ؟ كُل رحلاتي عبر شواراعها في السيارة على الأغلب ، ممزوجة بعرقٍ فظيع وقرقعة سيارة أبي الكورلا الحمراء ... أجمل أيامي تلك السنتين التي قطعتها ماشية ممسكة بيد أختي الصغيرة اللينة من مدرستي المتوسطة إلى بيتنا .. وعلي الأخص شتاءاً ـ حيث يعتدل الجو قليلاً ـ وفي مسقط رأسي الذي يبعد ساعة عن الرياض ...أما عدا ذلك كانت ذكرياتي مزيجاً من زحام السيارات، والأضواء البرتقالية، وسواقي الأجرة من جنوب آسيا، والمتاجر والمقاهي والمطاعم المُكيفة .
"" أحببتُ النظر إلى الهالة البرتقالية لمصابيح الشوارع في منازل الآخرين، سواءً كنتُ أسير مساء في الشوارع أو أتطلع من النافذة ""ص٣٦٩ **
كتب باموق عن حزن أسطنبول وعن علاقة الناس بهذا الحزن وكيف توحدوا معه وفسره جيداً جداً، لايمكن أن يكتب أحدٌ عن مدينته كما كتب هو ، واستعان بذكرياته، وحكاياته ، وكتابات الرحالة والمثقفين الأوربين، وأدباء تركيا، وموسوعات عجائبية عن عالم أسطنبول قديماً كــ " موسوعة أسطنبول " لرشاد أكرم قوتشو .
"" بدأت في الخامسة عشرة رسم المشاهد المحلية بهوس، لكنه لم يكن نابعاً من حبٍ خاص للمدينة. لم أكن أعرف شيئاً عن رسم الطبيعة الصامتة والبورتريه، ولم أرغب في معرفة شيء عنهما، لذا لم يكن أمامي من اختيار سوى أن أرسم أسطنبول .. "" ص٣٥٣
"" وهكذا أدرتُ ظهري للمشاهد الشهيرة في المدينة وبدأت طريقتي الثانية في رسم المدينة : الشوارع الجانبية الهادئة، والميادين المنسية، والأزقة المرصوفة بالحجارة( متجهة من التل إلى البوسفور مع البحر وقزقولسي والشاطيء الآسيوي في الخلفية) والمنازل الخشبية ذات القباب. وقد ولدت هذه الأعمال، التي كان بعضها بالأبيض والأسود وبعضها بالألوان على قماش أو ورق ٍ مقوى لكن بقليلٍ من الألوان وكثيرٍ من الأبيض، ولدت نتيجة مؤثرين مختلفين "" ص٣٥٧
كتب عن من رسم أسطنبول وقال أنه لايمكن لأحد أن يرسم هذه المدينة، باموق نفسه في طفولته ويفاعته إلتجأ للرسم حيث وجد ذاته الأخرى الضائعة فيه، فكان يرسم أي شيء .. يرسم شوارع أسطنبول ، ومنظر أسرته وهم في حجرة المعيشة، وشكل طلاب فصله الكسالى الهائمون في عالمٍ آخر إزاء ملل الأساتذة الأتراك في المدرسة الأمريكية، يقول باموق أنه اكتشف متعة جديدة حين رسم الياليات ( نوع من السفن أصغر من العبارة في تركيا )، والعبارات وحرائق أسطنبول الواقعة في البسفور بسبب تسرب نفط العبارات العسكرية كحوتٍ ضخم، لحرائق البحر وحرائق أسطنبول فصلان لحالهما... يكتب عن حرائق العبارات ومتعة مشاهدتها لدى الأسطنبوليين، يقول أن هذا الشعور المجنون مجتث من أسطنبول نفسها ، حيث أن قتامة هذه المدينة أصبحت لاتطاق وباتت حرائقها إثارة رائعة لسكانها .
""كنتُ مصاباً وأنا في الحادية عشرة، حين كنتُ أعيش في الشقة نفسها مع أسرتي، بهوس إشعال الحرائق ـ أشعل النار أينما وحينما أستطيع ـ لكنني لم ألاحظ إلا حينذاك أن هذه المتعة فارقتني منذ وقتٍ طويل بدون وداع ""ص٣٦٣
وأنا طفلة كُنت أرمي أعوادالثقاب عبر النافذة بمعاونة خالي، كانت رائحة الكبريت ومنظر الشعلة الساقطة من شباك الدور العشرين له إثارةٌ لا تُضاهى ! .. أعتقد أنني أفهم شعور باموق ولذة الحرائق، كُنا في مكة حينذاك .. وحين إعترفنا لجدتي بجرمنا لَمّت رأسها ... وتمتمت بأن عناية الله حفظتنا وحفظت المدينة المباركة من حريقٍ كُنا سنكون سببه الوحيد .
***
أقترح لمن أراد أن لايعاني من باموق وأسلوبه الغرائبي الممل المعقد أن يقرأ هذا الكتاب، ويقرأ ماكتبه باموق نفسه عن نفسه وحياته ... هناك مقالين بترجمة أحمد شافعي ***.... حيث ستكتشف أن باموق نفسه عاني من ضياعٍ في الأنا وأنه دائما يتخيل نفسه شخصاً آخر، وهذا الأورهان الآخر لا يظهر إلا وقت الرسم ـ وفيما بعد حين الكتابة ـ ، وفي سريره عارياً تحت الأغطية !
عاني الكاتب المسكين من معرفة من هو ومن يكون وأين ذلك الآخر الهائم منه في شوارع وأزقة أسطنبول الحجرية الأثرية المحاطة بالبيوت الخشبية العطنة ، فكانت ثيمة الآخر دوماً تظهر في رواياته كما قرأت وقرأتها أنا بنفسي في رواية الحياة الجديدة، حيث يتحول عثمان لآخر بعد قراءة كتابٍ ما ...
باموق رمى بمستقبله خلف ظهره وهرب من كلية العمارة وجلس مع والدته يرسم ويرسم حتى أدرك أن الرسم رغم إجادته له ليس عالمه الحقيقي الذي قد يجد فيه أورهان الثاني ... فبكى وتاه قليلاً وغاص بين روايات تولستوي وبلزاك ومان ... ثم في لحظة تجلي عرف الطريق وقال لأمه لقد عرفت ماذا أريد ... أريد أن أصير كاتب .
بقيت كلمة :
الكتاب أغنى وأعمق من هكذا تدوينة .
ـــــــــــــــ
* هنا تدوينة عن رواية الحياة الجديدة
** أسميتُ مدينتي بـ " المدينة البرتقالية " بسبب أنوارها من قبل أن أقرأ الكتاب :)
جميل جدا .. خصوصا كتابتك تلك المدونة في رمضان
ردحذفشهر جميل ورقيق رغم مروره السريع لا أستطيع قراءة كل الكتب التي وضعتها في قائمتي
ولا كتابة كل التدوينات التي خططت لكتابتها ..
ارجو ان يبارك لك الله في الباقي من رمضان ويبلغك العيد بسلامة وامان ^_^
شكراً لكَ هاجر على القراءة والمتابعة ياصديقتي ... وليبارك لنا في جميع الأيام ❤️
ردحذفمؤتمرات واجتماعات جماعية مرئية آمنة باستخدام تقنية VoIP
ردحذفلمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/why-you-should-consider-a-voip-solution-for-virtual-meetings
رفع مستوى كفاءة البيع عبر الهاتف مهمة أساسية تتطلب تأسيس كول سنتر احترافي
ردحذفلمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/call-center-system-to-get-the-most-out-of-your-telemarketing