التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الركضُ أم الكتابة ؟ (35)




باموق هو الطفل الأصغر






أمامي ساعةٌ كاملة  قبل الغوص في مهام إعداد وجبة الإفطار، ولا أزال أفكر:
 أأقوم بالركض على الجهاز الرياضي أم أفتح جهازي المحمول وأحاول كتابة شيء ما عن باموق؟!
 لا أعرف كيف أكتب ما أريد كتابته عنه وما أصبحتُ أفكر فيه بعد إنهائي كتاب المذكرات " أسطنبول الذكريات والمدينة " منطرحة على الأريكة بخمول، تتنازعني الرغبات بين المشي وباموق، وفكرة ما عن حساء الفطر وجبن الحلوم المشوي، وعدد الصراصير الوجودة في بالوعات البيوت،  فيما أمامي على الشاشة فيلم كرتوني، وحولي ثلاثة صبيان يبدون كمصابين بغثيان الظهيرة .
أخذت أفكاري منحى متواتر ومستمر فيما يخصُ الكتابة، ولمعت في ذهني البداية ! ـ و هذه أهم النقاط للكتابة ـ بعدها يبدأ الإسترسال . تبدو فكرة تدفق الكتابة على عقلك كلعنة فراعنة ... فتتورط بالنهاية ! كيف تُنهي ما كُتب ؟
كُنت أكره أورهان باموق ، أعني أن كُرهي يتمثل لما يكتبه، قرأته للمرة الأولى في رواية الحياة الجديدة، وقلتُ لنفسي ماهذا الضياع المكتوب ؟ مالذي يريد الكاتب قوله لي ؟ لبرهة ما سخرتُ من موضوع حيازته لنوبل  وأكملتُ الرواية على مضض ... وأخيراً بررت ضياع وملل الرواية بسبب الترجمة، وقلت لنفسي : سأمنحه فرصة أخرى *
أقلب أسطنبول الذكريات والمدينة .... رمضان ونهاره الطويل الرائق فرصة لتجربة القراءة ثانية لباموق.  يتضح لي أنه مذكرات لباموق، وأنا أهوى قراءة مذكرات الناس . يزين صفحات الكتاب صورٌ فوتوغرافية رمادية لباموق وعائلته ، مع كُل صفحة أتوحد مع باموق الطفل واليافع المشتت بين بيتين  وأبوين تحكمهما علاقة متوترة .. يتحدث باموق عنه وعن حياته في أسطنبول من وجهة نظر فريدة حقاً، يكتب عنها بتجلي نادر لما يمكن أن يحكم علاقة الناس بالمدن .... من يفهم علاقته بمدينته ؟ هه؟ من يملك القدرة علي التحليل ؟... وضعت نفسي مكان باموق : وحاولت كتابة شيء عن مدينتي ـ أسميها المدينة البرتقالية لإنها مضاءة دوماً بضوء برتقالي ممرض ـ تبدو علاقتي مع الرياض بلا علاقة ! كيف يمكن أن أبني علاقة مع مسخ الصحراء الممزوج بالزجاج والأسمنت وأرتال السيارات البلا حد ؟ كُل رحلاتي عبر شواراعها في السيارة على الأغلب ، ممزوجة بعرقٍ فظيع وقرقعة سيارة أبي الكورلا الحمراء ... أجمل أيامي تلك السنتين التي قطعتها ماشية ممسكة بيد أختي الصغيرة اللينة من مدرستي المتوسطة إلى بيتنا .. وعلي الأخص شتاءاً ـ حيث يعتدل الجو قليلاً ـ  وفي مسقط رأسي الذي يبعد ساعة عن الرياض ...أما عدا ذلك كانت ذكرياتي مزيجاً من زحام السيارات، والأضواء البرتقالية، وسواقي الأجرة من جنوب آسيا، والمتاجر والمقاهي والمطاعم المُكيفة .


"" أحببتُ النظر إلى الهالة البرتقالية لمصابيح الشوارع في منازل الآخرين، سواءً كنتُ أسير مساء في الشوارع أو أتطلع من النافذة ""ص٣٦٩ **


كتب باموق عن حزن أسطنبول وعن علاقة الناس بهذا الحزن وكيف توحدوا معه وفسره جيداً جداً، لايمكن أن يكتب أحدٌ عن مدينته كما كتب هو ، واستعان بذكرياته، وحكاياته ، وكتابات الرحالة والمثقفين الأوربين، وأدباء تركيا، وموسوعات عجائبية عن عالم أسطنبول قديماً كــ " موسوعة أسطنبول " لرشاد أكرم قوتشو  .


"" بدأت في الخامسة عشرة رسم المشاهد المحلية بهوس، لكنه لم يكن نابعاً من حبٍ خاص للمدينة. لم أكن أعرف شيئاً عن رسم الطبيعة الصامتة والبورتريه، ولم أرغب في معرفة شيء عنهما، لذا لم يكن أمامي من اختيار سوى أن أرسم أسطنبول .. "" ص٣٥٣
"" وهكذا أدرتُ ظهري للمشاهد الشهيرة في المدينة وبدأت طريقتي الثانية في رسم المدينة : الشوارع الجانبية الهادئة، والميادين المنسية، والأزقة المرصوفة بالحجارة( متجهة من التل إلى البوسفور مع البحر وقزقولسي والشاطيء الآسيوي في الخلفية) والمنازل الخشبية ذات القباب. وقد ولدت هذه الأعمال، التي كان بعضها بالأبيض والأسود وبعضها بالألوان على قماش أو ورق ٍ مقوى لكن بقليلٍ من الألوان وكثيرٍ من الأبيض، ولدت نتيجة مؤثرين مختلفين "" ص٣٥٧


كتب عن من رسم أسطنبول وقال أنه لايمكن لأحد أن يرسم هذه المدينة، باموق نفسه في طفولته ويفاعته إلتجأ للرسم حيث وجد ذاته الأخرى الضائعة فيه، فكان يرسم أي شيء .. يرسم  شوارع أسطنبول ، ومنظر أسرته وهم في حجرة المعيشة، وشكل طلاب فصله الكسالى الهائمون في عالمٍ آخر إزاء ملل الأساتذة الأتراك في المدرسة الأمريكية، يقول باموق أنه اكتشف متعة جديدة حين رسم الياليات ( نوع من السفن أصغر من العبارة في تركيا )،  والعبارات وحرائق أسطنبول الواقعة في البسفور بسبب تسرب نفط العبارات العسكرية كحوتٍ ضخم،  لحرائق البحر وحرائق أسطنبول فصلان لحالهما... يكتب عن حرائق العبارات ومتعة مشاهدتها لدى الأسطنبوليين، يقول أن هذا الشعور المجنون مجتث من أسطنبول نفسها ، حيث أن قتامة هذه المدينة أصبحت لاتطاق وباتت حرائقها إثارة رائعة لسكانها .


""كنتُ مصاباً وأنا في الحادية عشرة، حين كنتُ أعيش في الشقة نفسها مع أسرتي، بهوس إشعال الحرائق ـ أشعل النار أينما وحينما أستطيع ـ لكنني لم ألاحظ إلا حينذاك أن هذه المتعة فارقتني منذ وقتٍ طويل بدون وداع ""ص٣٦٣

وأنا طفلة كُنت أرمي أعوادالثقاب عبر النافذة بمعاونة خالي، كانت رائحة الكبريت ومنظر الشعلة الساقطة من شباك الدور العشرين له إثارةٌ لا تُضاهى ! .. أعتقد أنني أفهم شعور باموق ولذة الحرائق، كُنا في مكة حينذاك .. وحين إعترفنا لجدتي بجرمنا لَمّت رأسها ... وتمتمت بأن عناية الله حفظتنا وحفظت المدينة المباركة من حريقٍ كُنا سنكون سببه الوحيد .

***

أقترح لمن أراد أن لايعاني من باموق وأسلوبه الغرائبي الممل المعقد أن يقرأ هذا الكتاب، ويقرأ ماكتبه باموق نفسه عن نفسه وحياته ...  هناك مقالين بترجمة أحمد شافعي ***.... حيث ستكتشف أن باموق نفسه عاني من ضياعٍ في الأنا وأنه دائما يتخيل نفسه شخصاً آخر، وهذا الأورهان الآخر لا يظهر إلا وقت الرسم ـ وفيما بعد  حين الكتابة ـ ، وفي سريره عارياً تحت الأغطية !
 عاني الكاتب المسكين من معرفة من هو ومن يكون وأين ذلك الآخر الهائم منه في شوارع وأزقة أسطنبول الحجرية الأثرية المحاطة بالبيوت الخشبية العطنة ، فكانت ثيمة الآخر دوماً تظهر في رواياته كما قرأت وقرأتها أنا بنفسي في رواية الحياة الجديدة، حيث يتحول عثمان لآخر بعد قراءة كتابٍ ما ...
 باموق رمى بمستقبله خلف ظهره وهرب من كلية العمارة وجلس مع والدته يرسم ويرسم حتى أدرك أن الرسم رغم إجادته له ليس عالمه الحقيقي الذي قد يجد فيه أورهان الثاني ... فبكى وتاه قليلاً وغاص بين روايات تولستوي وبلزاك ومان ... ثم في لحظة تجلي عرف الطريق وقال لأمه لقد عرفت ماذا أريد ... أريد أن أصير كاتب .



بقيت كلمة :
 الكتاب أغنى وأعمق من هكذا تدوينة .

ـــــــــــــــ
* هنا تدوينة عن رواية الحياة الجديدة
** أسميتُ مدينتي بـ " المدينة البرتقالية " بسبب أنوارها من قبل أن أقرأ الكتاب :)
*** المقال لأول : هنا والثاني : هنا

تعليقات

  1. جميل جدا .. خصوصا كتابتك تلك المدونة في رمضان
    شهر جميل ورقيق رغم مروره السريع لا أستطيع قراءة كل الكتب التي وضعتها في قائمتي
    ولا كتابة كل التدوينات التي خططت لكتابتها ..
    ارجو ان يبارك لك الله في الباقي من رمضان ويبلغك العيد بسلامة وامان ^_^

    ردحذف
  2. شكراً لكَ هاجر على القراءة والمتابعة ياصديقتي ... وليبارك لنا في جميع الأيام ❤️

    ردحذف
  3. مؤتمرات واجتماعات جماعية مرئية آمنة باستخدام تقنية VoIP
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/why-you-should-consider-a-voip-solution-for-virtual-meetings

    ردحذف
  4. رفع مستوى كفاءة البيع عبر الهاتف مهمة أساسية تتطلب تأسيس كول سنتر احترافي
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/call-center-system-to-get-the-most-out-of-your-telemarketing

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...