التخطي إلى المحتوى الرئيسي

29

عاجزةٌ عن الكتابة، وعضلاتي متيبسة إزاء الأوراق . لابأس لأقرأ كثيراً أو لأكتبُ ما أريدُ كتابته ... أو لا أكتب شيئاً أبداً ..
من كتاب: " لماذا نكتب؟ " إصدار الدار العربية للعلوم كتبت إيزابيل اللندي تصف حالها بعد وفاة بُنيتها الشابة باولا : " إذن بت أعرف بأنني إذا ما أُصبتُ بحبسة الكاتب، فيمكنني أن أكتب في غير الخيال. كتابة المذكرات لها إيجابياتها، فأنا أعرف بأنه لايمكن إبتزازي، لإنني لا أخفي أية أسرار .
ولكنني لا أزال خائفة من  امتناع قدرتي عن الكتابة، الأمر أشبه بإبتلاع الرمل إنه مروع . "
****

 كتبت بضعة سطور في الأيام الفائتة، مخافة ان تهرب مني الكلمات حين يكون الوقتُ والمزاج مهيئان تماماً للكتابة .. إنه درسٌ وعيته جيدً من قراءة سير الكُتاب وأسلوب حياتهم، موراكامي، ماركيز، إبراهيم العريس، ونجيب محفوظ والقائمة بلا نهاية ...
.. أُكتُب كل يوم .. يجب ان يكون هناك وقتٌ يومي تخصصه للكتابة، أكتب أي شيء ولكن لا تجلس خالي الوفاض أماما شاشة حاسوبك أو أوراقك ... أكتُب أي شيء !*

****

أعيشُ في الصفحات الأخيرة من روايتيّ : زوربا وخمسة أصوات .. كانت إحداهما تسابق الأخرى وسأنهيهما في يومٍ واحد، كذلك قرأت مجموعة الصديق عبد الله ناصر فن التخلي ليلة البارحة والتهمتها في ذات الليلة ..

****
سطوة النصوص
هناك نوعٌ مختلف من الكتب، أسميها الكُتب المتعدية ، يمارسُ فيها نص الكتاب نوعاً من السطو والتجاوز على القاريء.. فلا يكتفي بأثره المحدود المُتمثل في حركة رموش العينين أثناء القراءة، بل قد تفرُ السطور من بينِ أصابعك كغولٍ مسعور!  كما حدث معي في تلك الليلة ..



قرأتُ لأمير تاج السر مقالاً بعنوان : " النصوص الطغاة " تحدث فيه عن إستبداد النصوص العظيمة للكاتب والقاريء على حدٍ سواء .. فالكاتب لابد وان يكون قارئاً، وبعض الكتب تمارس ضغطاً لامرئياً ـ ولكن محسوس بدرجة كبيرة ـ على الكاتب .. حكى عن إنعتاقه من عدم قراءة أمبرتو إيكو في المقال وأنه تنفس الصعداء حين قرأ اسم الوردة أخيراً، لتبدأ السلسة اللامنتهية من الكتب العظيمة المستبدة التي لم يقرأها .. والتي قرر في نهاية المقال أن يزعق في الناس ويقول نعم لم أقرأها .. أروني ماذا تفعلون !المقالُ لا يُفوت هنا كاملاً .

قرأت الأخوة كرامازوف لدستوويفسكي أثناء أشهر الوحم العصيبة، وكان تأثيرها وسطوتها علي شيئاً لايُصدق وضاراً تماماً .. لقد تجاوزتني خالدة دستو لتدخل لمعدتي ومصاريني، فأرتفعت حموضة المعدة وعانيتُ من القرحة الفظيعة، وكوابيس حامضة أثناء النوم إضافة لدوار البحر الذي يعرفنه كلُ من مرت بتجربة الحمل .. كنتُ طوال القراءة بتلك الحال ولم أتنبه أن دستو هو السبب، قاربت على إنهاء ثلثي الجزء الأول من الأخوة كارامازوف وتوقفت قسرياً عن القراءة لتهدأ معدتي، ويعود حالي لما أعتدته .. القراءةٌٌُ أحياناً خطرة، وقد تكون مميتة!

مع كافكا كان نصٌ الحكم متعدياً بشكلٍ مغاير، لقد زارني بعد الإنتهاء منها كابوسٌ من أروع الكوابيس في حياتي .. زارني جيورج بنفسه بطل القصة قصة الكابوس كتبتها سابقاً في تدوينة هُنا .

باتريك زوسكيند في روايته القصيرة الحمامة كان مُتعدياً بشكلٍ مختلف، فقد قفزت حمامة جوناثان نويل خفيةً للحمام الذي اتخذ نوافذ حجرات نومنا مأوى، فلبثت الحمامات يهدلن طوال يومين بشكلٍ حزين،مُلح ومتواصل .. وحين أنتقلتُ لكتابٍ آخر سكن الصوت .


مجموعة عبد الله ناصر القصصية المعنونة بفن التخلي تنتمي لذلك النوع من الكتب، في إحدى الليالي القريبة بدأتُ قراءتها
كنتُ منهمكة في قصته المعنونة ب " حياة سريعة "، والتي تُصنف ضمن نوعية القصص القصيرة جداً _ كحال بقية الكتاب من نوعية قصص ال ق.ق.ج _  .. أثناء تسابق السطور كانت ركبتيّ بلا مبالغة تصطكان رعباً، ولمّ أُنهيها إلا وقد قفزت مستوية جالسة بتحفز ورأسي ينبضُ بشدة، أُعيدُ القراءة رغم كُل هذا التوتر.. النص المجنون يمارس سطوته علي، في منتصف القصة تماماً قفزت السطور مني وتعدتني لتسطو على فراش طفلي، لتشق صرخته الخائفة الليل بعد أن تحولت السطور لغولٍ فر مني وأيقظ  طفلي المسكين .

 منذ أعلن عبد الله عنه  وأنا أتلهف لقراءته كاملاً.. صحيح ان تلك اللهفة تببدو بلا تبرير إن كُنت قد أطلعتُ على نٌبذٍ منها قبل الطباعة والنشر .
 الذي  قفزأمام عيني : بعد نهاية القراءة كيف يُمكن أن يكتب كاتبٌ ما بهذا الشكل ؟
يغمس جمله في الإستعارات والكنايات بمهارة صانع حلوى، يغمس الأعواد في عجينة السكر لتخرج بأشكلٍ متماثلة، أما عبد الله ناصر يٌخرجها من مصنع عقله مملؤة بدهشة حد الشهقة، باردة حد الموت، صناعة مثل هذا الكتاب عملٌ مميت ومُرهق_ وقراءته كذلك لكثافة الصور في القصص _ ... أتخيل لو كتبت شيئاً مماثلاً أن مُخي سيذوب بعد الفراغ منه كما لو وضع في كوب خل، تخيل عملية كتابته مرهقة ومرعبة تماماِ، عدا عن قراءته التي قد تهوي بك للجنون والخوف لتخرج من قراءته مُرهقاً جداً .
ربما ذلك هو المأخذ الوحيد كقارئة بسيطة وذلك لاينقص من عملٍ مبهر شيئاً، بل قد أكون قارئة  أبسط من هكذا كتاب .لغة عبد الله واضحة وجزلة جداً.. يبدو كموسيقي يكتب نوتة بالكلمات أو يروي قصة حياته بالنغمات ببطء .. الكتابة عن كاتبٍ تعرفه شخصياً ليس سهلاً كما كُنتُ أظن، إنه صعبٌ جداً ومفاجيء لطبيعتك البشرية التي تريد التملق بوقاحة وبين دهشتك بكاتبٍ حقيقي يتحدث كلغتك ولهجتك، ويعرف ماتعرفه لإنكما تعيشان أماكن وبيئاتٍ متشابهة ، في النهاية إنني اتساءل : هل عبد الله شخصٌ حقيقي ؟
حسناً لأصف لكم تصوري بعد القراءة، في البداية انتقل عقلي لتخيل كاتب العمل الصديق عبدالله تخيلته كشبح غير حقيقي كتب هذه السطور، أو يبدو كإمرأة مكسورة تكتب بإسم رجولي مخافة المجتمع، او كشخصٍ حياته على الحافة  بسبب مرض الإيدز ... أنا مجنونة نعم عذراً ياعبد الله ولكني أحاول أن أكون صادقة لأقصى حد وأنا أكتب إنطباعي ... كتابٌ مذهل ..لو سُئلتُ عنه سريعاً سأجيب بصدق وبساطة : إنها نصوص شعرية نادرة، كُتبت بمزاج قناصٍ قاص .


تعليقات

  1. عزز مستوى حماية الشبكة الخاصة بك باستخدام حلول جدار الحماية
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/firewall

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحر وكتاب وقمر

" لتبدأ الحياة كل يوم كما لوأنها بدأت للتو " غوته ( 1 ) الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر . ( 2 ) البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأق

هل ننجو من لعنة الفراعنة؟ إليكم ماحدث ..

مقولة مثل كل المقولات ! رماها أحدهم في الفضاء وتلقفتها الأفوه؛ لاكتها، عجنتها، تندرت بها، توجست منها، ثمّ: صدقتها . تلك هي حكاية لعنة الفراعنة باختصار ! منذ أن افتتح كارتر مقبرة توت غنع آمون وهناك من يؤمن بتلك اللعنة، وهناك من يضحك على من يؤمن بها … لعل ضحكه يدفع شراً ما، لكن الجميع يتفق على أنها ظاهرة غريبة ليس لها تفسير، أو قد تحمل تفسيراً أُوري في الخفاء كما يحدث مع ظاهرة موت لاعبي كرة القدم بالسكتات القلبية هذه الأيام :) ! لم يمت أحدٌ ممن اكتشفوا مقبرة (واح ـ تي) في نوفمبر  2018 ، وهو مسؤول كبير _ كاهن للسلالة الخامسة من أسرة الفراعنة _ ، حوت المقبرة عدة موميات لوالدة هذا الكاهن وأولاده وزوجته، إضافة لموميات لبوة وشبل أسد، حوت المقبرة قصة حياة " واح تي " وتاريخاً آخر لصراعٍ عاشه مع مواطن فرعوني آخر أراد أن يطمس حضوره بعد الموت واستولى على المقبرة عله يحظى بجنة (واح - تي) بعد الموت ! خلال ساعتان مركزة من السرد المرئي لاكتشاف غرفة  

ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة

  تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة!  تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟ بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة  بمثابة احتفال قرائي أختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، أسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي. مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل. في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة. فرانكشتاين في بغداد: اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد).  بدأت بها مساء يوم العيد بعد إرهاق التقبيل ا