التخطي إلى المحتوى الرئيسي

26

سيكون في حجرة الإلهام حين أرغبُ بالقراءة والكتابة حوض غسيل أواني بسيط، غلاية قهوة، وبرادٌ صغير ... تداهمني الأفكارُدائماً وأنا في مطبخي، أجلو الصحون، أو أقوم بعمل القهوة أو الشاي .. تومضُ الأفكار وأنا غارقة في مهامي المطبخية فأنهمكُ أكثر وأتقن تلميع الأوني وتنظيفها .. إنه إلهامٌ نفعي من جهتين .. كربةِ منزل وهاوية كتابة .. مرحى !

***

لايكتبُ الإنسان لمجرد الرغبة في الكتابة، الكتابة تكون ردة فعل لحدثٍ أكثرُ أهمية ... يكتبُ الإنسان حتى لايموت، تخلده كتاباته كما خلدت الملايين ممن احترقت أدمغتهم وهم يكتبون ، يقول كافكا إن الكتابة شيءٌ يشبه الولادة فعلياً بكل مراحلها الفزيولوجية ومايصاحبها من مخاض ودماء وإفرازات، الكتابة عملٌ عظيم حتى يوجب للآخر  قراءة شيءٍ عظيم .
 أقرأ الآن رواية خطوط للقاريء الصديق أحمد الحقيل .. أحمدٌ مزيجٌ إنساني متفرد، ومهبول ومشاكس، وحزين ... الصفة الأخيرة تجلت لي أكثر أثناء قراءة روايته، بطل الرواية سعود الغزيمي صحفي وكاتب شاب من المجمعة، يحاول إيجاد ابيه المفقود وفي أثناء بحثه تتقاطع خطوط حياته وحياة والده الشاعر عبد المحسن الغزيمي.. ليقرر سعود أن يكتب عن ابيه الشاعر المجهول.. الكتابة هُنا إثبات وجود قصة حية ابيه الذي لا يعرفه أحد .
إنني في الصفحة المائة وعشرة، الحقيل قبل هذه الرواية قاصٌ فريد، لايمكن ان تقرأ بعض قصصه إلا بقلمه هو، في هذه الرواية الحقيل القاص تفوق على الروائي ..إنه رأيٌ مبدئي ،عند ختام الرواية سأدرج رأيي حتماً في أحد اليوميات.

***




شاهدتُ مقابلةً تلفزيونية عن كاتب العمود الثقافي بجريدة الحياة" إبراهيم العريس "، لمنّ يريد أن تتدفق رغبة القراءة لديه فليسمع حديث هذا اللبناني الطيب، من فقد الحماس وذبل حبره فليقرأ مايكتب .. كتب كثيراً كثيراً، يقول إنني أكتب وأكتب وأكتب .. على منضدة كتابته صندوق خشبي رصف فيها عويناته الخاصة بالكتابة، يقول: "حين أكتب أفتح هذا الصندوق وأكتب .. لازم حين بدي أكتب أناظر هالعوينات" .. ينظر إلى نورِ بصره المهدور من أجل أن يحكي للقراء عن قراءاته ومشاهداته وترجماته ... يقول مُبرراً فعل الكتابة : " أكتبُ لكي أنفع غيري، وكنوعٍ من الإستذكار لما أقرأ: أكتب !"
الكتابة فكرة ملحة تذكر بالمقروء لدى العريس، الكتابة فعلٌ مبهج لإنه سينقل عشق الكتاب للآخر .. العريس رجلٌ في الستين يقولُ أنه كسولٌ جداً، قليل الحركة بذهنٍ متقد ، إشتغل في السينما صغيراً كمخرج ومؤلف، حتى اهتدى لعمله الأصيل ككاتب .

***
غالباً لابد في كل رواية أن تأتي ذكرُ الكتابة، هوية المؤلف لابد أن تطغى كنوعٍ من المباهاة كما يفعل  الطاووس حين يفرد ريشه، ،ليستمر في إبهارنا كقراء ...
في ساعي بريد نيرودا لسكارميتا، كانت عظمة الشاعر اللاتيني في عزلته الكتابية تضمحل أمام محاولات ماريو خمنيث لكتابة الشعر .. محاكاة لشاعره المحبوب وتفريغاً لطاقة حبه المتفجرة كبركان ... وبالأساس كانت الرواية مكتوبة من قبل روائي أساساً .. أي أنها كتابةٌ عن الكتابة.

في رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي كتب هوزيه ميندوزا رواية حياته حتى يتخلص من عبء الهوية المزدوجة هو انسان لأبوين من ديانتين وبلدين مختلفين .. كانت الكتابة بهمٍ وجودي مرير، وقد أجاد السنعوسي السرد .. وعلى فكرة فقد ندمت بعد إنقضاء معرض الكتاب دون شراء روايته الجديدة " فئران جدتي حصة " رغم عنوانها الجذاب، فضلا عن أن أسلوب سعود الروائي جميل ومتماسك و نائل للبوكر عن جدارة .. واليوم أدعو الله كي أحصل عليها خصوصاً بعد منعها في بلد الكاتب الكويتي .

في زوربا كان الراوي رفيق زوربا كاتباً هادئاً، يدخن سيجارته بإتزان ويقرأ بوذا وينام جيداً ليحلم به ... وحين تتجلى تلك اللحظة الملهمة له كان كبوذا نفسه يكتب بتدفق ... كانت الكتابة حينئذٍ تساؤلاً فلسفياً كبيراً .. من هو الرب ولما خُلقنا ؟

***

توفي أمس الأديب الألماني غونتر غراس الحائز على نوبل


***

نهاية هذه التدوينة تغريدة كتبتها قبل زمنٍ قصير :

" الكاتب أخبث لصٍ في الوجود، إنه يسرق أفكار الناس، وأحلامهم،وذكرياتهم، وحياتهم ... وقد يموتوا دون أن يشعروا بجريمته هذه أبداً. "

تعليقات

  1. أربط فروع شركتك أياً كان عددها بشبكة موحدة مع حلول VPN
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/VPN?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-107

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...