التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرف الشرقي




مالذي يدفعنا للكتابة ؟ هل هو نقصنا المتخاذل عن الحكي والثرثرة مع الآخرين ؟ أم الرغبة بالإحتفاظ بمتعة مُغايرة لا يمارسها سوى عددٍ قليل من الناس ؟
لستُ أدري حقيقة عن الجواب .. فأنا أطرح السؤال أعلاه بعبثية وعجز حتى أجدَ اليوم مدخلاً للكتابة :) !
أُريدُ أن أحكي اليوم عن تجربة القراءة التي مررتُ بها مع عبده خال .. إنها " الموتُ يمرُ من هُنا " ..في قرية صغيرة تقعُ في جوف وادٍ ،غاصةٍ بالموت والفقر والعفن ، وكلُ الأشياء الزائلة التي نعرفها، عظيمها وأحقرها .. تغصُ بالسواد ، والشر المتخاذل ..ينمو جسد تلك الرواية كمضغةٍ في رحم ، فيجيدُ هذا ال " الخال " بناء شخصياته وخلقها . مثلاً : يمكنني الجزم بأن العجوز " نوار " ليست سوى أحدى جداته اللاتي عاشرهن في صباه أثناء ترعرعه في جازان .. عجوزٌ جنوبية قوية ، تقف أمام الكل بعنادٍ وقوة، تأبى عظامها البالية أن تستسلم لإنحناء الكهولة ، تُغذي روحها الصلبة بقول الحقيقة ،حتى تنبلج غيوم الموتِ والشر عن القرية . مطرُ القرية الأسود يستسقيه حاكمها الجبار " السوادي " .. السوادي شخصية أسطورية فانتازية جعلها خال إحدى أعمدة روايته الرئيسية ، ليخلق الصراع الممتد بأمد الجياة بين الخير والشر  ..
مع كُلِ صفحة تنبثق الشخصيات ، فيطُل " درويش " الأهبل أو المتهابل علينا ليحكي حكايته الخاصة ، هوَ ربيبُ السوادي الباحث عن صدرِ إمرأة دافئ يلمُ يُتمه المجهول ، تنبذه نساء القرية العجفاوات ولا يحضنهُ سوى صدر العجوز نوار ، الذي يجد فيه بعضاً من دفئ يجعل دموعه اليابسة تتساقط لأول مرة وآخرها ! 
درويش حكايته خاصة ، أعتدنا من الروائيين الإستعانة بالعبطاء لتوظيفهم حتى يقولو مالم تقدر عليه بقية الشخصيات على قوله ، ليكون العبط والجنون تبريراً كافياً فلا نستغرب تلك القوة في الصراخ والإحتجاج و قولُ الحقيقة بتهكم ، إنهم يُشيرون إلى إنقيادنا المُذل وسلبية المجتمع الشرقي .. كُلهم صامتون ، يهشون الذباب عن وجه ظالمهم يطلبون منه بذل منحهم الحياة وهش الموت عن أرواحهم .. أعتقد أنّ تلك الرؤية السلبية غدت قديمة ،فما نُشاهده اليوم من أيام الربيع العربي وصحوة الشعوب يُبدلُ تلك النظرة بأخرى تُناقضها ، أخرى شابة فتية عفيفة ، لها مبادئها التي لا تُساوم عليها وتحمل للمستقبل مِنظاراً زاهراً .
السوادي ،درويش ، العجوز نوار ، خضرا وصالحة ، موتان وعبد الله الشاقي ، شبرينّ أبو عين ، جيلان وإمرأة القلعة ، النّور ( الغجر ) ونسائهم الفاتنات ، قرية السوداء التي ختمها عبده بنهاية مفتوحة تحملُ بُعداً تشاؤمياً لمّ أستسغه ..ولا أنسى أن أقول : أن حُلتها القشيبة من اللغة تجعلني أصفق لهذا الجنوبي الأسمر ابن الفُلّ والكادي . ولا من عتبٍ عليه سوى إسهابه المفرط ،ومطه للرواية .


" آه... ها نحن نقتسمك اليوم حزناً إضافياً .. نقتسمُ بُعدك .. وموتك وسيرتك.. هكذا فجأة انطفأت ابتسامتك ،وأصبحت جرحاً في قلوبنا ..كلما أطللت في أحاديثنا استرجعناك بأسى .. كيف ألقاك ، وتلك العصا ( السلمونية ) لاتقوى اليوم على إخفاء هذا الخوف الذي انبث في داخلي من مرقدك الأخير . ليتك تعلم يا عبد الله هذه المفارقة .. فففي جنازتك يسير درويش ضاحكاً ، والسوداي دفع إليك بكفنه مبدياً أسفه على رحيلك، وبعث معاونيه ليزرعوا جسدك الطري في بطون الديدان، والعدم ، وظل درويش يحكي بضحكته الرغدة لتلك الجماجم _ الناهضة احتفاء بمقدمك _ بأنك صديقه .. ألس غريباً ما يحدث .. هاأنت تموت غرقاً ، وانت سيد البرك ، حين كنت تنزل إلى عمق الآبار ، وتنسل مابين الطين ولا يمسك بك الماء ... هلّ حقاً اغتالك الوادي ؟! "
الرواية _ ص389

* * *

هلّ تعلمينَ أيتُها الصغبرة 
عن صباحاتي المُزدحمة
بأكوابِ الشاي
وتثاؤب الشوراع الغافية
ولهاث عقلي الباحث 
عن نقطة هدوء واحدة
أقرأُ بها كتابي
هلّ تعلمين ؟
انّها لا تكتمل
سوى بوردتكِ الزرقاء
ذاتِ الخيوطِ الصوفية !


تعليقات

  1. رائعة هذه القراءة أيتها المبدعة.. والقارئة.. لك إعجابي

    ردحذف
  2. أستاذة لبابة :
    مرورك يزرع في قلبي بهجة خضراء ... تعالي وأهطلي لتورق الأشجار وتطلق الأزهار عطرها .. تعالي يا أستاذتي .
    ( أعتذر على الرد المتأخر لظروف الحج :) )

    ردحذف
  3. جميلة :

    صباحك بهجة ونور مقبل على جناح نسمة خريفية وديعة,ممتعة هي سطورك,غير أن تساؤلك حول الكتابة وهل ما يدفعنا اليها هو النقص المتخاذل للكلام والثرثرة مع الآخرين,فأنا أتفق معك حول هذه النقطة,المهم هو ماالذي يدفعنا الى ذلك النقص المتخاذل...عندما يعجز الآخرون عن ادراك ما تحاولين قوله ..او عندما يخطئون في تفسير رؤاك وفهمها..وعندما ينظرون اليك احيانا وكأنك كائن قادم من عالم آخر,هنا يفاجئنا الظمأ الى الكتابة,فنهرع اليها كما يهرع الرضيع الى صدر أمه..القلم..ذلك الشيء الصغير الذي يحفظ اسرارنا ويتصالح معنا في جميع أحوالنا الداخلية بلا كلل ولا ملل, اما بخصوص رواية عبده خال فانني لم أقرأها حتى الآن,ولكني قرأت لخال رواية ترمي بشرر,وهي رواية قاسية وصادمة ولكن اسلوبه في الكتابة اعجبني, وبعد قراءتي لرواية محمد شكري الخبز الحافي تذكرت فورا رواية ترمي بشرر,وشعرت بأن عبده خال في روايته متأثر بالخبز الحافي...قد أكون مخطئة وقد اكون مصيبة في احساسي,والآن وضعت رواية الموت يمر من هنا ضمن قائمة كتبي الجديدة التي انوي شراءها :)

    ردحذف
  4. أهلاً بك سيدة " جميلة " ..
    أسعدني تعليقك وجعلني أفكر مجدداً فيما كتبت .. لا تغيبي فحضورك مُلهم ومُحفز :) .
    كونوا بخير .

    ردحذف
  5. أفضل 3 شهادات لتكنولوجيا الاتصالات وأنظمة الشبكات
    https://modn.com/ar/top-3-IT-certificates-that-are-in-a-high-demand-in-2022?utm_source=biz-vb&utm_medium=organic&utm_id=H-102

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...