التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رسائل، نوفيلا، قصص،٣ كتب سريعة في زمن كورونا


"اكتشفت اليوم فئة من الكتب تستطيع عوالمها أن تنفرج لك في أي وقت فتكتب قراءة مركزة عنها، كما تتميز بصلاحيتها للقراءة في أي وقت: أثناء الانتظارات الطويلة في الشوارع المزدحمة، في الفرجة المسترخية قبل النوم، وسط استراحات الأعمال والمطارات، أو في العوالم السوداء لفجوات الأسِرّةِ العتيقة."

تبدو القطعة أعلاه كضربٍ من الخيال الجميل الماض: ازدحام؟ مطارات؟ شوارع؟
ألتمس العذر منكم، قد كتبتها في زمن تلاه مايعاش الآن: حيث أضحت الملامسة كابوساً، والازدحام انجرافاً نحو الهاوية، أما المطارات...تلك الذكرى البعيدة للتحليق التي لاندري متى تعود.
كان بالإمكان حذف هذه المقدمة لتناقضها مع واقعنا المعاش، إلا أن هذه التوطئة لازالت مناسبة لخلق تصور عن نوعية الكتب التي اخترت الكتابة عنها اليوم.
84، شارع تشارينغ كروس




الرياض، الثلاثاء 12 صباحاً 
31 مارس 2020
اليوم الثامن من منع التجول

يوم السبت أنهيت مراسلات هيلينا وفرانك، (زفرة طويلة وحارة!)
هيلينا هانف: كاتبة وباحثة أمريكية مستقلة، لديها ولع بالطبعات النادرة والقديمة، فرانك دويل: مكتباتي داهية، يعمل في مكتبة ماركس وشركاه المستعملة، التي تقع في 84 شارع تشارينغ كروس وسط لندن.
رأيت الكتاب على الشاشة أولاً. لم أقاوم مشاهدة الفيلم المقتبس من هاته المراسلات قبل ـ قراءتها ـ حين علمت أن أنتوني هوبكنز قام ببطولته، أنا لا أستطيع الصمود أمام هذا الإنجليزي العتيد في أي عملٍ له، شاهدت الفيلم، و نقلني هوبكنز باقتدار لعالم المكتباتيين الشغوفين عبر أدائه لشخصية فرانك.
فيما عشقت حياة هيلينا! كاتبة حرة، تعيش اليوم بيومه فحسب، جسدت دورها آن بانكروفت بتقمص رائع لشخصية الكاتبة النحيلة. قامت هيلينا بجمع المراسلات بينها وبين فرانك في كتاب صغير أرخ ارتباطاً من نوع خاص بين موظف في متجر كتب مستعملة وقارئة محترفة. يجذبك هذا الكتاب كقاريء بسبب بساطته و خفته واقتضابه. فيما تغلغله لداخلك: نفاذ، سلس، مريح. وحين بلغت الرسالة التي أرسلتها جوان تود ـ سكرتيرة مكتبة ماركس وشركاه ـ لهيلينا تبلغها بوفاة فرانك، سقط حزن مفاجيء وحقيقي داخلي، نما ذلك الحزن من حولي وبت أرى هيلينا وهي تكتب بحماسة وشغف، غير مهتمة سوى بأن تجد عزلتها المريحة للكتابة، مع الطعام الذي تحب والتبغ الذي تفضل، مع كتبها التي توفرها لها رفقة فرانك المتفهمة في الجانب البعيد من العالم.
مع عزلة جائحة الكورونا سقط ذلك الحزن داخلي عميقاً و حقيقياً، وبت حقاً قلقة بألا أحقق ما أريده في هذه الدنيا: القراءة وسط مكتبتي التي أحلم، كتابي الحقيقي والذي سيجد طريقه حقاً لقارئه، رفقة متفهمة، التفرغ للكتابة الحرة.. التفرغ التام كما كانت هيلينا منزوية داخل شقتها التي تحوي ضروريات حياتها: أريكتها البسيطة، سجائرها، رسائل فرانك، ومطبخها وحمامها المليئان بالصراصير!  
صدرت الترجمة العربية عن دار ممدوح عدوان في 2019، قام بالترجمة: دلال نصر الله، وقُدم سينمائياً عام 1987 بطولة: أنتوني هوبكنز، آن بانكروفت, جودي دينش.





رواية مكعب


أهداني السيد فيصل غمري روايته مكعب، وقد كنا قبل إهدائه لي في معرض تعارف قبل الانخراط في لقاء مرئي نتناول فيه عوالم الكتب وأصحابها، عرفت أنه بدأ مشوار الكتابة في مجال المسرح لتجذبه القصة القصيرة بفضاءاتها المضغوطة المتقنة، ثم جرب نَفَسَه الروائي في مكعب.
شدني الغلاف السريالي، بدأ السرد ببساطة مباشرة: بساطة رائقة حافظ فيصل على قوامها حتى النهاية، خلال أقل من مئة صفحة جعلتني أصنفها كنوفيلا أو أقصوصة طويلة، كنت مع بطلها في رحلته للسويد بكل تفاصيلها وكأني عشت الأيام الثلاثة فعلاً خارج حدود الجغرافيا والحقيقة. هذه الرواية تجسد قصة لقاء وانكشاف، وتشرح محاولة نجاة الكاتب الذي يبدو غائصاً في دوامة الحب والعلاقات الفاشلة والأدب.
يلتقي الكاتب ببطلة الرواية المنفية قسراً، والتي تركت قلبها وحياتها في وطنها، عبأت جسدها في الحقائب، كدسته بعناية حتى لا يموت ولا يخدش، ليطمئن قلب والديها، فيما بقيت الروح مذبوحة هناك.
تبدو تسمية الرواية مرتكزة على حدثٍ جانبي للسائح الأديب، حدث غير مهم لكن أهميته هو في اللقاء المُهَنّدس بين بطل الرواية وموظفة المعرض الفني، والذي حدث بسببية المكعب، مجرد مكعب!  ليس له أي معني جمالي أو هندسي سوى أنه: مكعب.
لغة الرواية بسيطة جداً، مباشرة جداً، تجعلك تفكر بأن بساطتها قد ترمز لعمق القصة ومعناها في السطور القليلة، شعرت بالملل قليلاً بسبب  إنشائية الأسلوب في الرواية إضافة لكثرة الكليشهات، لكن نفس فيصل الرائق، وتألق لغة المسرح في روايته جعلني أكملها للنهاية، كما جعلني أتوق للتعرف على نتاج فيصل المسرحي لتميز لغته، وقلة الأقلام المسرحية السعودية.
صدرت هذه الرواية عن دار روافد للنشر والتوزيع.

تقرير عن الرفاعية


رنين هاتف قديم يطرق رأسي بإلحاح، يستمر، يستمر، أُنصت بانتباه جدي، أتجاهل تلك الإشارة الغامضة بأن ذلك محض وهم، الهاتف يدق، بتلك النغمة العابقة بالسنين والذكريات، يبتعد كسراب، أتأكد من هاتفي الرابض أمامي كجثة، أنفض رأسي، أعود لكتابي الساحر الذي أقرؤه: "تقرير عن الرفاعية" لـ محمد الفولي.
أمر بصفحاته سريعاً بعدما كانت القراءة الأولى قبل عدة أشهر، أذكر كيف قلبت الغلاف الأخضر الشهي بين يدي، وكيف حاولت تفسير صورة الشيخ الملتحي المعمم مع الأفعى الحمراء لاستنباط فحوى الكتاب. بدأت بفض الورق والقراءة، يروقني الأسلوب السردي، والتفاصيل المروية بعناية لا يسأم معها قاريء، بل تجعله يبتلع الطعم ويؤمن بكل حرف في تقرير الرفاعية.
قصصٌ متتابعة متفرقة تتوالى بكثافة وسرعة لتحقق هدفاً واحداً، نكتشفه في القصة الأخيرة ونحن: نلهث من الإثارة تارة، ومن الترقب تارة، ومن محاولة فصل خيال الفولي عن سيرته المدسوسة تارة أخرى، وكأنه بهذا ـ كما قرأت كوصفٍ لأسلوبه ـ: يبدو سارداً مقتدراً بواقعية سحرية ذات رائحة حريفة مشوقة تحمل بصمة اللاتينيين.
ذاع صيت الفولي كمترجم رائع عن الإسبانية، وصل للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الثقافية القصة القصيرة 2019  بهذا العمل الصادر عن دار الكتب خان، يعمل محرراً في القسم الرياضي لوكالة الأنباء الأسبانية في القاهرة.  لم أقرأ أي من ترجماته بعد، لكن رواية "استسلام" لراي لوريغا ـ التي قام بترجمتها ـ تتكأ منتظرة، وأنا أُفضل على الدوام أن أتعرف على الكاتب بمعزل عما يترجم.
"تقرير عن الرفاعية" كتاب تستطيع قراءته كرواية خفيفة ذات فصول مقتضبة وشيقة، كما تستطيع قراءته كمتوالية قصصية محبوكة بمهارة. وفي استطاعتك قراءته كحكاية بوليسية متماسكة لمطاردة الرفاعيين لرجل ثلاثيني يحاول فك شيفرة اسم شارع بيت عائلته القديم "إبراهيم الرفاعي"، لكن ليس في استطاعتك أبداً أن تُسْكِتَ ذلك الهتاف المبحوح الذي سيتردد داخل رأسك بعد أن تغلق الكتاب:
"محمد … يافولي!"

تعرف على هذه الكتب وشاركنا اقتراحك بخيارات مماثلة


* مقال منشور على أراجيك

تعليقات

  1. http://atravian.com/ts10/register.php?ref=50

    ردحذف
  2. 7 أسباب لإنشاء كول سنتر في قطاع المستشفيات والخدمات الطبية
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/7-reasons-why-you-should-have-a-call-center-for-your-healthcare-facility

    ردحذف
  3. أهم 30 مصطلح مستخدم في مجال الكول سنتر او مركز الاتصال
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية |
    https://modn.com/ar/most-commonly-used-30-call-center-terminologies-and-abbreviations

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...