التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً.

***
تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني.
في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد!
لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها.
أنا نجار فقد مهارة قطع الخشب ولذة نحته فجأة وبات يجرب الحلول كل يوم وحين أجاد صنع المقاعد تنفس الصعداء وغدا صنع  المقاعد قشة أنقذته وبها يجني قوت أيامه، في كل يوم: مقعد جامد، زوايا حادة ميتة، خادشة لفساتين الآنسات اللاتي يمررن بجانبه أو يقتنينه، مقعدٌ ثقيل بشع، مقعدٌ قوي يفوز على الزمن  ويمكن  أي من كان أن يجلس عليه، والنجار ..... يموت.


***
تفصيلة صغيرة علي مسند الكرسي، حَفَر الخشب هويناً هويناً، أتى زبون يبحث عن مقعد وراح صفر اليدين يضرب كفاً بكف، والنجار المجنون منحن على المسند للكرسي المتأهب للشراء، ركب رأسه، وثقب جيبه ليستعيد لذة الحفر والنحت السابقة، مهارته اليومية كنجار أتقن حرفته لسنوات عديدة وفي لحظة غفلة تفلتت مهاراته من بين يديه، وغدا القوت هو الأهم ... لكنه الآن يعاود الحفر  جائعاً يصبره حلمه الذي سيرى النور ...


***
العجوز داخل مخي منحنٍ على المسند يحفر الخشب بتؤده وحنان .... لنبدأ الحديث ... لنبدأ الصنع ... لنصنع شهقة أفواه الناس، ولتتسع العيون مستلذة بما تراه، ١٥ عشر كتاب، لتكن البداية من آخرها :

 "رالف رزق الله في المرآة "(٢)
نتيجة بحث الصور عن ‪Rabee Jaber‬‏


قراءتي أتت متأخرة جداً لربيع ورواياته، أكتشف كنزاً: كاتبٌ يخضني من الأعماق، موضوع مختلف، لغة معتناة، راوٍ مستفز يقفز كل مرة من وسط الكهف والعطن والصداع ... ثيمة الرواية من أولها لآخرها تدور حول ربيع وصداعه المميت، حول لقاء وحيد مكسور كشرخ مرآة مع رالف، حول قصة حقيقية لأستاذ علم النفس في جامعة بيروت، حول صداع حياته، صوره وتلاقيه مع ربيع كل مرة أمام البحر، مقابل صخرة الروشة بجمجمة مفتتة وثيابٍ مثقلة بالماء المالح، أو في مرآة مغسلته القديمة، أو خلف باب المخزن الأسود المصمت المقفول في غرفته تحت الأرض.
ربيع جابر: رواٍ متوار في مكان ما، يبيض مسوادات كتبه بعناية كما بُنيت الأهرام حجرة حجرة ( كما قال في أحد رواياته)(٣)،  تجبره جائزة البوكر على الانكشاف والظهور أمام الكاميرا الملعونة في لقاء وحيد(٤)، وسط أرتال الكتب برفوفٍ تصل سقف حجرة ضيقة ليعود بعدها داخل كهفه ...ربيع خريج الفيزياء من الجامعة الأمريكية ببيروت تجره لذة الخلق في الكتابة بعيداً عن فضاء النواة وقوانين الحركة ومعادلات الميكانيكا وقطة شرودنجر، كما فعلت مع أرنستو ساباتو(٥) وكما تحاول فعله معي ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) رواية النباتية
(٢)  رواية رالف رزق الله لربيع جابر
(٣) المصدر
(٤) لقاء مع ربيع جابر
(٥) آرنستو ساباتو: واحد من أهم كتاب أمريكا اللاتينية  في مجالي الرواية والمقال إضافة إلى كونه عالم فيزياء ورسام ـ ويكيبديا
للمزيد من مقالات ربيع جابر هُنا

تعليقات

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. شكرا لك على هذا الموضوع الرائع

    ردحذف
  3. السلام عليكم ,
    بعد أن قام أحدهم بدلي على مدونتك ، فتحت الرابط و قد رأيت منشورك هذا
    خصوصًا أن عنوان " النباتية" قد لفت انتباهي أولًا ..

    اقرأ في تدوينك أنك نجار فقد مهارة قطع و نحت الخشب ؟
    هل تقصد أنك فقدت الشغف ؟ من الغريب جدًا أن يحدث ذلك فجأة ..
    إن كان الشغف فأنت بحاجة لبعض راحة و الكثير من الإلهام ، و تجربة شيء جديد في ذلك كنقطة ضرورية !

    لم افهم أي شيء يخص ليلة عيد الميلاد .. ربما بسبب اختلاف الأديان ، لا عليك ..

    لكن اعتقد أنه عليك تدوين و رسم مخططات و صور لخطوات صنع الأشياء التي تقوم بها !
    فحتى الفنان ... يقوم بمراجعة الأساسيات و رسمها كل فترة و أخرى كي لا ينسى
    فأحيانًا هناك شيء يضرب الدماغ فجأة و ينسيه أشياء روتينية كان يقوم بها كل يوم ، لا انكر أن هذه الحالة من الممكن أن تصيب أي شخص .

    ==========
    من الرائع شغفك لقراءة الكتب .. الكتاب الثاني لم اسمع به بعد ..
    حاليًا يراودني الشغف لقراءة الكتب التي لم اقرأ عنها قط .. كـ " أرطغرل ، بربروس 101 ، زمن الخيول البيضاء ، عيون الطوارق " .. و أشياء من هذا القبيل ..

    و الاهتمامات تتغير مع الوقت ..

    شكرًا جزيلًا لك على التدوينة ..
    سأرى كيف يمكنني متابعة المدونة فأنا لا اعرف كثيرًا على مدونات بلوجر بعد .

    ردحذف
  4. السلام عليكم

    اسمي زليخا من سوق رمان

    وندير منصة على الإنترنت تسمى سوق رمان حيث
    نقدم منتجات آسيوية في الشرق الأوسط وبأسعار منافسه

    نقوم بتنظيم مسابقة المدونات لرمضان وعيد الفطر مع #سوق_رمان حيث يشارك فيها المدونين العرب مثلك
    وتبدأ المسابقة الآن وحاليا ننظر إلى 100 المدون في المسابقة .

    كلمني اذا مهتم بالمشاركة وبرسلك التفاصيل ويرجى للزيارة هذا الرابط لمعرفة تفاصيل المسابقة

    -- https://www.eromman.com/ar/ramadan-eid-blogger-contest-with-eromman-ar/

    ردحذف
  5. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  6. كلمات منسقة بعناية كأنما تشذبين نباتات حديقة!

    ردحذف
  7. كيفية تهيئة وتركيب سنترالات IP-PBX بالمملكة العربية السعودية
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/the-ultimate-guide-to-install-an-IP-PBX-system-in-2022

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...