التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حكايات الطباشير ومذكرات الكتابة والطبخ والأجداد


لوح وطبشورة

لم يمنع كفاف البصر جدي أن يعلم أولاده العشرة، ولم تقف الأمية جداراً بين جدتي وبينهم لدفعهم وتشجيعهم عبر نسج حكاياتها الملهمة حتى آخر أيامها، برع أخوالي في مجالات عدة، حتى أمي وخالي (ع) اللذان كانا يظنان افتقارهما للموهبة والتميز كمنت عبقريتهم في شعورهم المرهف وكونهم دودتي كتب شرستين. تعلمت من أمي كيف أقرأ، كانت كتبها المثيرة الممنوعة تتساقط في حضني كهدايا  من السماء، صناديق مجلات الفن والسينما المصرية، مجلات طبية، وأساطير صحراوية مارجة، تمر السطور تحت تحت عيني دون فهم نصفها أو أكثر مما يستفزني لخرق المزيد وقراءة الكتب المخبأة تحت السرير وفي المخزن. حكت لي أمي حكاية عن اللوح الخشبي في بيتهم الطيني الذي غرسه جدي في مركز البيت قائلاً لهم: هذا اللوح ميدان براعتكم .. هنا خطوا الحروف، الكلمات، ضعوا النقاط كما ينبغي وارسموا الجيم وأخواتها بفن. فكانت المحصلة ٣ خطاطين ورسامين، ـ لم أرث هذه الصفة للأسف الميزة فخطي بشعٌ للغاية ـ  وهكذا ورثت من جدي بعضاً من خياله كشاعر فيما شغفت كما جدتي الحكيمة بالقصص والحكايات رحمهما الله رحمة واسعة.

***

دانييل جوتليب: دروس الجد للحفيد

 للجدود تأثيرٌ مذ الولادة ويمتد حتى نصبح جداً أو جدة ، أقرأ الآن  رسائل جد في الحب والخسارة وهبات الحياة لحفيده سام التوحدي*، وهو كتابٌ رغبت في في امتلاكه ورقياً مُذ العام الفائت أو قبله بقليل، فقمت بثلاث زياراتٍ لمكتبة جرير في فروع مختلفة بحثاً عنه، تنقيب مواقع بيع الكتب، ليصطادني اليأس أخيراً وأحاول إيجاد نسخة إلكترونية ليصطف نهاية في المكتبة الافتراضية في هاتفي، حينها .. وحينها فقط قفز الكتاب ليدي من حيث لا أعلم، أتاني مما أعتبره درة مدينتي: " مكتبة الملك عبدالعزيز العامة " إهداءاً كريماً بعد المشاركة في ندوة لقراءة أحد كتب الرحلات…لذا يمتد الشكر لهم من هنا حتى أفياءها الرخامية الباردة ورفوفها العامرة.

***

إيزابيل اللندي: كاتبة وجدة

 تبدو قراءتي  لكتاب شهرزاد أميركا اللاتينية إعادة مختزلة وسريعة لقراءة مذكرات إيزابيل اللندي في " حصيلة الأيام ـ دار المدى" للمرة الثانية. في حياة إيزابيل كان جدها لأمها أحد أسباب كونها ماصارت عليه، حيث بدأت كتابة أول رواية في الثامن من كانون الثاني يناير ١٩٨١ ـ وقد أصبح هذا التاريخ تاريخاً موحداً لبدء كتابتها رواية كل مرة ـ كرسالة لجدها المحتضر في تشيلي على طاولة مطبخها في كاراكاس بعد وضع العشاء لولديها  وزوجها في نهاية يوم عمل يبلغ١٢ ساعة كمديرة مدرسة، استمرفعل الكتابة بالتدفق كل ليلة، وحين أرتها  أمها قالت: " يبدو ما كتبت كرواية!" فكانت " منزل الأرواح" أولى رواياتها.
هذا الكتاب طريف وخفيف، ذو خطٍ أسود قاتم يدفعك للقراءة وإن كنت في فراش نومك بمعية مصباحٍ متخاذل، يمنحك حماساً لتبحث عن كل ما يتعلق بهذه التشيلية المتوهجة ذات الخمسة وسبعين عاماً، ويجعل قراءة رواياتها المنتظرة هي الخيار لكتاب العيد أو قبله إن أتممت قراءة مابين يدي سريعاً. فرغم قراءتي لقصصها القصيرة ومذكراتها ومقالاتها لم أدلف عالمها الروائي بعد.
 هنا تجد مقالات تترجم لأول مرة للعربية، وترجمة لحوار مع إيمي غودمان في مقابلة تلفزيونية تأبيناً لمواطنها اللاتيني ماركيز، هنا تعرف كيف تعاطت إيزابيل مع كونها جدة فصنعت رواية كاملة مبنية على قصص حفيدتها الظريفة ـ رواية دفتر مايا ـ ، كما ألقت كلمة ملأى بالنكات على أصدقائها في حفل التخرج من الثانوية. هنا ستجد أن الحب كالكتابة لا يمكنك من معرفة متى تتوقف .
في ٢٣٥ صفحة مترجمة باعتناء من قبل المترجم عبدالله الزماي وإصدار دار  جداول.

***

مذكرات مخبوءة للطائر الأسود:

لازلت أتحسر علي مافاتني من مهارات جدتي العزيزة في الطبخ: كسر اتزان حلاوة التمر مع ذرات الملح أثناء صنعها وجبة الشتاء الأثيرة: عصيدة التمر بالسمن، طريقتها في رق العجين على الكفوف بخفة لصنع المرقوق والخبز والثريد.
 اقترحتُ على أمي أن نحافظ على ماتبقى من إرثٍ مطبخي وتقنياتٍ طهو بعقد صفوف لنقل هذه الخبرة منها ومن قريباتي الماهرات في الطبخ الشعبي لمن يرغب. في المغرب يقمن النساء المغربيات البسيطات بنقل مهارتهن وثروتهن القومية العالمية  في إعداد الأكل اللذيذ المتشعب وتقنيات الطهو المتنوعة لبناتهن، كما اهتمت بعض الجهات الغير نفعية بتدريب الفتيات المغربيات والأجانب الراغبين بتعلم بعض أسياسيات هذا المطبخ الفريد.

***

بدأت الثلث الثاني من رمضان بقراءة كتاب فاروق مردم بك "مطبخ زرياب"، فاروق باحثٌ ومترجم سوري فرانكفوني يعيش في باريس،  تنكر فاروق بريش الطائر الأسود وبدأ بكتابة وصفاتٍ شغوفة من مطابخ العالم أجمع موقعة باسم زرياب،  كان ينتقي الأطباق بروح زرياب الدقيقة المرهفة ويكتب وصفاتها بشعرية ملفتة، ذاعت أنباء  هذا الزرياب الجديد في أوساط الموائد والأدب مما دفعه لكشف قناعه أخيراً وإصدار الكتاب كاملاً.

يقول المؤلف في الكتاب:

" هو أبو الحسن علي بن نافع، لقب بزرياب، وهو طائرٌ أسود اللون، بسبب دكنة بشرته وعذوبة صوته وحلاوة شمائله." ص١١

"علم زرياب أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية الأكثر تعقيداً، وترتيب أطباق الوجبة على الموائد الأنيقة، فأفتى بأن لا يقدم الطعام دفعة واحدة أو كيفما اتفق، بل يجب البدء بالحساء، تتبعه أطباق اللحوم والطيور المطيبة بالتوابل الحارة، ثم الأطباق المحلاة، فالحلوى المصنوعة من الجوز واللوز والعسل، أو الفاكهة المجففة المحشوة بالفستق والبندق. ونصح بتغطية موائد الطعام بأغطية من الجلد الناعم الرقيق بدلاً من شراشف الكتان الخشنة، وبين أن الكؤوس الزجاجية الفاخرة آنق على المائدة من آنية الذهب أوالفضة." ص١٢

"لاشك إذاً في أني كنت مغتراً بنفسي شديد الغرور، أنا العارف بكل ذلك ، حين استعرت خلال ست سنوات اسم زرياب لتوقيع مقالاتي المتواضعة في فن الطبخ." ص١٣




في هذا الكتاب تتفهم أصل اللذة، والأسرار الدقيقة لطرواة معجون الحمص، وتناغم الحلو والمالح الذي يتميز به المطبخ البربري، ستفهم  كيف امتزجت اللذائذ كما امتزجت الحضارات في الامبراطورية الاعثمانية، وستتعلم إحترام زيت الزيتون ودبس العنب مما يخولك إعداد طبق للذواقة، كما ستتمكن من مزج الخل بالمطيبات لتصنع منه ألذ الإيدامات، هنا ستقع في الحيرة  لتفهم الفروق بين بقلاوة حلب والبقلاوة التركية، وستعرف سر تسمية الكنافة، ولمن تدين إيطاليا بسر عجائن القمح والسميد.
الكتاب لذيذ ومشوق ورائع الإخراج ـ إحذر قراءته صائماً :) ـ إصدار كلمة الإمارتية في ٢٢٥ صفحة من القطع الكبير.

ــــــــــــــــــــــ
* كتاب رسائل إلى سام ، إصدار وترجمة مكتبة جرير

تعليقات

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. شكرا على هذه الفوائد

    ردحذف
  3. كيفية تهيئة وتركيب سنترالات IP-PBX بالمملكة العربية السعودية
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/the-ultimate-guide-to-install-an-IP-PBX-system-in-2022

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...