التخطي إلى المحتوى الرئيسي

32


يحدثُ أن تكتب دون أن تجد دافعاً وراء ماتكتب، أو تجهل الشخص الحقيقي المستفز لسعيك اللاهث وراء الحكاية، وراء الكتابة .


***

بحديثٍ مختلف عن المذكرات الخاصة كان كتاب مضحك بالفارسية، وهو مذكرات إيرانية نشأت في أمريكا لفيروزة دوماس الصادر عن دار مسارات الكويتية، وبترجمة سلسة جداً للمترجمة السورية بثينة الإبراهيم ... حين تُريد أن تعرف قدرة المترجم إختبر سلاسة قراءتك، وحين ينجح ذلك تأكد أنك أمام مترجم لا يُشق له غبار .
مثلاً : صالح علماني المترجم الفلسطيني السوري الشهير للأدب اللاتيني ـ من الأسبانية مباشرة ـ، لا تسبب لك مفراداته المتنوعة ولا  جزالة أسلوبه بثقلٍ في القراءة حيثُ أننا أمام مترجمٍ تماهى تماماً مع النص المُترجم، ترجم رفعت عطفة من الإسبانية مباشرة أيضاً لكن علماني غلبه بالسلاسة، أقصد بالسلاسة ذلك الإنسياب الناعم للنص فكأنما يقفز بنعومة من الكتاب لأذنيك متدفقاً عبرهما لدماغك!
 ترجمة الفاضل سامي الدروبي ذو اللغة الفخمة، المتواترة الكثيفة، كانت أيضاً تتميز بالسلاسة، وترجمة القدير إبراهيم وطفي الذي نقل أعمال كافكا من الألمانية للعربية مباشرة كانت سلسة لحدٍ مذهل ! بثينة الإبراهيم من هذا النوع ... ولم ينغصني في ترجمتها سوى الأخطاء المطبعية الكثيفة  لليوميات، وذلك كما أعتقد خطأٌ تقني صادر عن الدار نفسها .... لذا وجب البحث عن ترجمات بثينة .

***

أكره تكرار الأحاديث بشكلٍ عام فيما يُقرأ وأكره أن أكرر الحديث عن معضلتي التي أعيشها حالياً لأجل الإلتزام بالكتابة .
كاتبٌ أسباني قال أن الكاتب يكتب لإنه يلاحظ بشكلٍ مذهل! (1)مع العلم أن الكاتب لا يدري إمتلاكه هذه القدرة الخارقة، أعتقد أنني قد بدأت بفقدان هذه الميزة .
قمت بواجبٍ إجتماعي في الأسبوع الفائت  وحينما سُئلت فيما بعد عن لون زي قريبتي التي بجانبي  أجبت : لا أدري .. إنني أفقد هذه القدرة وأعتقد أن لذلك علاقة بقراءتي وشغفي وقلقي إزاء الكتابة.
صوت مطارقٍ لا تهدأ هذا الصباح ، وتشاركني نقرات لوحة المفاتيح ... لابد وأنها طرقات رجلٍ آسيوي مفتول يرتدي البنجابي الأبيض ويطرق بل كلل ، قص علي أبي قصصاً كثيرة أحدها أنه درس في بريطانيا مع رجلٍ عراقي اسمه جواد، يقول لي أبي وحزنٌ طفيف يطوف بوجهه كغمامة : أنه لايستطيع إقامة علاقات قوية بمن حوله وإن رغب بذلك بعض المرات، كما حدث في شبابه مع جواد .
القصة التالية رواها لي أبي في إحدى الجلسات الرائقة الخالية من زعاق الأطفال، كان هو وعمي قد قررا بناء منزليهما متجاورين في العاصمة، أبي هو الأصغر، وهو كما يقول ليس له جلد تحمل المسئوليات والقيام بالمهام الدنيوية الخانقة، أعتقد أن ابي يحمل داخله روح فنان ! أو أنه كما قال ذلك الأسباني يمتلك صفات الكاتب وقد يكون له تجارب قديمة لا نعلم عنها ، فلازال أبي أمامنا يحمل شخصية غامضة كشخصية الحاوي ولاعب الخفة و يدهشني كُل مرة بصفاتٍ عنه وحواديت من حياته. أوكل عمي لأبي أحد مهام الإشراف على البناء  في أحد المرات ،كان كُلاً من أبي وعمي يتناوبان في مراقبة العمال وسير البناء لضمان بيت المستقبل من غش العمال وعبثهم .. ابي لا يهتم لذلك ولا يعرف كيف يكون البناء علي الوجه الأكمل، يدخل عمي الحذق ـ المتعمق بتلك الأمورـ مصادفة .. يرى أخيه الأصغر وقد جلس علي طوبة يقرأ جريدة، بينما ثلاثة عمال يدهنون الجدران دون ترطيبها ، يستشيط عمي غضباً ويبدأ في حوارٍ عنيف يتحول لعراك، و أبي يخفي وجهه ـ كما يقول ـ بالجريدة ولا يُحرك ساكناً.... يقوم أحد العمال مستغلاً ثورة عمي وتعاميه بسبب الغضب، مغافلاً إياه ومتجاهلاً أبي ـ وكأنه لم يكن! ـ بحمل عصا غليظة هاوياً بها على جمجمته .... يقول أبي : كُنت أشاهد ذلك صامتاً وكأني في قاعة سينما...
لكن ابي لاينسي تفاصيل تلك الحادثة ويرويها لنا كما يجب بعد ثلاثين سنة، يستدرك  : " كان صديق العامل اللئيم فوقه على السقالة (2) وفي حموة النقاش تضطرب حركته لتميل الخشبة ويسقط علي صديقة المنتوي شراً بأخي  وينقذه الله في مشهدٍ سينمائي لايصدق ! وبباقي الخجل الذي لديهم يعتذر العمال وينسحبون من البناء أما أنا فقد كانت المرة الأخيرة والوحيدة التي يعتمد فيها أخي علي في البناء .. فقد تولي بقية العمل لوحده بعد تلك الحادثة، وأشرف على بناء البيتين" .

****

كأكمل ما تُكتب اليوميات : كتبت فيروزة يومياتها البسيطة ومذكراتها بأمريكا بطريقة فطرية وحكواتية مميزة  وبنكهة هزلية أمتعتني أثناد القراءة ، فقد سمت النقانق " الهوت دوق " بالكلاب الساخنة، ، واستخدمت كلمات أغنية أمريكية شهيرة للرثاء من حال أسرتها المتخبطة في أمريكا ! ... أهدت هذا الكتاب لأبيها المصدر لهذه الحكايات ،تقول : إكتشفتُ فجأة انني أتحدث كثيراً عن أبي ، وأن أغلب ماحدث في هذا الكتاب من طرائف و أحداث كان أبي  كاظم طرفاً فيها.

" وهذا يوصلني إلى الشخصية الرئيسية في كتابي : أبي. حين بدأت كتابة قصصي لم يكن لدي تصور أن أبي سيحتلها بوضوح، فغالباً أبدأ الحديث عن نفسي وحين أنتهي أجد أنها كانت عن أبي، كيف حدث ذلك ؟ لا أ دري ! 
مضحك بالفارسيةـ فيروزة دوماس ص ٢٠١




قد يأتي يومٌ أحتذي فيه بفيروزة وأكتب حكايات أبي، حاولت فيروزة في طريقة منها للإندماج في المجتمع الأمريكي أن تتخذ اسماً امريكياً ، وعاشت بذلك الأسم عدة أيام لكن ذلك موغلٌ في الصعوبة ومستحيل، لذا عادت لأسمها الشرقي الذي تعرف نفسها به وتحبه،كان صعب النطق وملتوي بالإنجليزية وكانت تجيب بأسمها وعلى تساؤل سيقع بسببه وبسبب هيئتها الشرقية ـ أثناء دراستها في جامعة بركلي ـ بالتعريف بنفسها بأنها من بلد القطط الشيرازية الجميلة .. فالأمريكان لايعرفون عن ايران آن ذاك لا السجاد الفارسي الرائع ولا موقعهاعلى الخريطة، ولا إحتياطي النفط الهائل في بلدتها الصغيرة عبادان، كانوا لا يعرفون عن إيران والفرس سوى قططها !

حازت فيروزة علي جائزة  أدبية أمريكية خاصة بكتابة السير والمذكرات، وكتبت المزيد من هذه المذكرات في جزءٍ ثانٍ ستصدر ترجمته العربية قريباً كما بشرتنا بثينة بتويتر... المميز في كتاب فيروزة أنه ليس دفتر مذكرات بل حكايات مركزة ومقتطفة من كل مرحلة في حياتها، كتبت قليلاً عن حياتها في عبادان ، مدينتها الإيرانية الحارة الواقعة شرق إيران، كتبت عن الطعام الأمريكي واللذائذ الفارسية الشهيرة من المائدة الإيرانية العابقة بطعم الزعفران ورائحة ماء الورد ـ أعتذر إن أسلت لعابكم فذلك هو تأثير قراءتي الحالية لأفروديت لإيزابيل اللندي ! ـ
 كتبت عن نمط الحياة السريع  الأمريكي، ووصفت لنا عرسها الجميل بزوجها الفرنسي المنتمي لعائلة كاثوليكية متشددة، كتبت عن أقربائها الإيرانين وكفاحهم للعيش وتوطيد أقدامهم في أمريكا، حتي غدوا قبيلة إيرانية صغيرة ممتدة بطول الخريطة الأمريكية ... يمكننا أن نستوعب عددهم إذا علمنا أن 181 إيرنياً قد حضروا من كافة الولايات الأمريكية ملبين دعوتها لعرسها! فيما لم يحضر سوى أربعة أفراد من عائلة زوجها فرانسوا :)
بلا شك أتطلع للمزيد مماكتبته هذه الإيرانية المرحة، وأنغمس بعد قراءتها في مشاهدة مقابلات مرئية لها(3)، والقراءة عنها(4)، إخترت هذا الكتاب بطريقتي الحدسية العشوائية الخاصة في إلتقاط الكتب ... من المهم ألا نفقد هذا الحدس في الإعتماد الدائم علي قوائم الكتب .

***

" يتقاسم الأطفال نفسهم اللذين سألوني عن الجِمال طعامهم معي . ( أراهنك أنك لم تتذوقي الأوريو قبلاً، جربي واحدة ) . ( خبزت أمي بسكويت زبدة الفول السوداني و أرسلت لك واحدة ) . يدعوني الأطفال إلى منازلهم ليروني كيف تبدو غرفهم . في الهالوين، جلبت لي عائلة ما زياً لمعرفتها أنني سأكون الطفلة الوحيدة في موكب الهالوين التي لا تمتلك واحداً . إن استطاع أحد أن يغلف طيبة أطفال الصف الثاني بشكل أقراص، فلا شك أنها ستنهي كثيراً من الحروب . "
*مضحك بالفارسية ـ ص40



ـــــــــــــــــــــــــ

  1. " تحدثت ذات مرة الى قرّاء لديهم شعور بأنهم يجب أن يكونوا حذرين في حضوري، لأني رأيت كل شيء وعرفت بالضبط ماذا سيرتدون من ملابس، أي نوع من الأحذية سوف يرتدون وماذا يكشف مظهرهم عنهم. دُهشت عندما سمعت هذا، لأن هذا غير صحيح تماماً. أنا لست ملاحظا جيدا، لكن ربما ألاحظ أكثر مما أظن، لأني أثناء الكتابة أتذكر بعض الأشياء التي لم أكن أعرف أني لاحظتها”.    الكاتب الأسباني خافيير مارياس، من حوار مترجم قامت بترجمته ميادة الخليل .. المصدر: https://aswhatblog.wordpress.com/2016/02/28/أنا-أكتب-لأشعر-بالزمن
  2. سِقَالَةٌ :  مَا يَتَّخِذُهُ البَنَّاءونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ القَوَائِمِ والأَخْشَابِ لِلْوصُولِ إلَى أعَالِي البِنَاءِ .المعجم: الغني
  3. هنا لقاء بالإنجليزية معها .
  4. موقعها الإلكتروني


تعليقات

  1. عزز مستوى حماية الشبكة الخاصة بك باستخدام حلول جدار الحماية
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/firewall

    ردحذف
  2. تهيئة حلول الاتصالات VoIP في السعودية وأهميتها للشركات

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...