التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العنكبوت المُنقذ

 " أهدي هذه التدوينة لأعضاء مجموعة Moma's and babies "



 أكتشفتُ أن سياستي في الحياة تعتمد على إبتلاع المنغصات، المشاكل، المواقف والأفكار المشحونة بجرعات من الشحنة السالبة ... إعتدت أن التقمها في فمي وابلعها داخلي للعدم كحبة حلقوم، لم تستوقفني أبداً ما أصطلح عليه الناس في العالم الإفتراضي ووسائل التواصل الإجتماعي ما يُسمى ب " الحلطمة " و " الفضفضة " وطرح الهم عن المنكبين بالنواح والأحاديث المملؤة بزبد اللعاب والشكوى ... ربما كانت القراءةُ ـ وفيما بعد الكتابة ـ قد جعلتني التهم العثرات أمامي وأكورها كقنفذ، أعتقدُ ذلك فلم أتوقف مذ أدركتُ وجودي عن القراءة، كانت القراءة بإختصارٍ شديد هي حياتي .

حسناً أنا أكبر ، وبإرادتي أقفز لمرحلة الإرتباط بشريك وتكوين أسرة، الآن أعتبرُ ذلك القرار المصيري كمرحلة منسية ولا أحاول إرساء سفن الذكريات داخل عقلي بما يخصها، ولذلك أسبابي التي قد يتأتى لي في يومٍ من الأيام أن أسردها.. لاشك أنها مرحلةٌ سعيدة، كنتُ فيها هانئة كأشد مايكون الهناء ...حمداً لله !
لعل  ماقالته جدتي كحكمة قديمة هو ماحصل لي آنذاك : ( ماهان تبارك ) ... أي ما استسهل ومامر دون تعقيدٍ إنساني  فإنه يكون مباركاً وتاماً كما لو أن عناية البشر والحرص الجبار تحوطه ... إنها العناية الإلهية، إنه الرضى كما يقول الأشوام عن الفتاة الرفيفة القنوعة المبتسمة دوماً : " ماشاء الله عليك شو مرضية! "
لا أحب هذا الحديث! ولكنه ضروري لنقش الصورة كاملة، ليكون الخيال مشابهاً لماحدث في الحقيقة ... رزقت بطفلي الأول وكُنتُ بكر العائلة المدللة ببطن مكورة . مر حملي سعيداً، محاطة بما يمكن لكم أن تتخيلوه من دلالٍ للإبنة الكُبرى، مزحومة بتجربة أولي عظيمة وعجيبة: إكتشاف نمو فيصل داخلي ببطء، ينمو جزء غريب وقاسي أسفل بطني، الحركة الأولى له لازلتُ أذكرها كرفة العين المضطربة اللإرادية، يكمن الفرق فقط في أنها تحدث في ذلك الجزء المحشور أسفل معدتك مائلاً نحو عظم الحوض الأيمن، رف رفته الأولى حتى إعتدتُ علي رَّفَاتِه كتحية صباحية، وحين تسقط القدور مني أثناء إعداد الغداء فزعة من مداهمة الوقت بعد حضوري من الجامعة، كان يرف ، لو سقطت ملعقة على ملاط المطبخ وأنا أسكب المكرونة كان يرف رفة مباغتة وخائفة سماها العرب ب " الإرتكاض" وهي النفضة الفجائية أثناء اللاوعي، مع الأيام قلتُ لأمي أنني أصبحت المس مرفق جنيني وكعب قدمه، قالت أمي أنني مجنونة وأبالغ بلا شك .. لكنها يا أمي الحقيقة لقد عرفته وعرفني، هذا الصغير المتكور بوداعة لائذاً بي، وداخلي .
 تنتهي هذه المرحلة بأن أصبحت ُ قلقة جداً حيال بكاءٍ منخفض ولحوح كمواء قطة صغيرة ... مرحي لقد دلفتُ مرحلة الأمومة!
أنغمسُ فيها كلياً بسعادة وبمشاركة زوجي نتعرف على هذا المخلوق الصغير الجميل ذو العينين المدهوشتين، وفمٍ رقيق ووردي كفم بطة " توم وجيري " الصفراء المسكينة... هذا الصغيرُ غدا يافعاً الآن نقزقز اللب سوياً ونقرض حبات الفشار في السينما أثناء مشاهدة فيلم، أو حضور مسرحية ... أكتشف يوماً بعد يوم تشابهنا وأحاول ألا يجذبني ذلك لأعدل أخطائي التي غدت أخطاءه فله حق الخطأ حتي يكتشف الحياة وتنضج قرارته،  فهذه حياته وله الحق أن يعيشها بكاملها وبإرادته وقراراته المفردة .
تمر قصة حملي بطفلي الأوسط بشكلٍ مختلف وسريع لكنها مشابهة لحملي الأول، لازلت كبيرة العائلة ببطن متدحرجة أمامها ... قال لي أخي الأصغر بإبتسامة مائلة وصفراء : " سأقول لأمي أن تضعك في قفص " ..في إشارة لضيقه من إهتمام ودلال أمي وأبي أثناء حملي، كان الصغير المدلل وقد أتيت واختطفتُ تلك الميزة للمرة الثانية ، تفهمته، فقد كان الإهتمام بي لايُصدق .. لاريب أن ذلك أشعره بالإختناق :) !
قبل سنتين ونصف تقريباً حملتُ بطفلي الثالث، كان الوضع مغايراً ، فأنا أمٌ حقيقية لطفلين ولثالثٍ يتخلق داخلي، كانت فترة عصيبة ومختلفة آنذاك، عشتُ الأشهر الأولى المُرتجة كدوار بحرٍ دائم، بين صراع صبيين صغيرين في البيت، وفقدت دلال الأسرة الكبيرة بعد أن نضجت  أمومتي وحان الوقت لدلال الأخت الصغرى، أذكر رغم ذلك أنني بقيت متشبثة بالكتب والقراءة كطوق نجاة قبل الغرق في بحر الوحم، جربت أن أن أقرأ دستوفسكي وجويس في إختيارٍ جريء لم أرً سبباً له حتي الآن!
كان من المفترض أن التقط كتاباً منعشاً وخفيفاً، سيرة أو يوميات مبهجة ... كتاب إيزابيل " حصيلة الأيام " كان سيكون طوق نجاة مثالي لي، أو كتاب " مضحك بالفارسية " لفيروزة دوماس كخيارٍ آخر مناسب تماماً . وقعت ذائقتي المتقلبة كمعدتي على قصص دبلن السوادوية لجويس والأخوة كارامازوف لدستو لتزيد السوء سوءاً ..
أمضي الأيام متكورة على أريكة الصالة ذات اللون اللون الوردي، بحواجب مبعثرة ووجه شاحب، نائمة أغلب الوقت، تثير رائحة الكتب غثياني فأملأ الصناديق كتباً وأبعدها في المخزن كعلاجٍ أخير وبائس لغثياني المستمر ... تمتد يد العنكبوت من شبكته لينتشلني في فجر أحد تلك الأيام ... كانت الشبكة العنكبوتية خياري الأخير للخروج من إكتئاب الحمل والوحم .
أكتشفُ تجمعاً للحوامل في شبكة الإقلاع، هناك العديد من الحوامل منكوشات الشعر، بصفرة قبيحة مثلي، أدلق عليهن ما أعانيه ويرشدنني بحماس لحلولهن المجربة، للغثيان، وفقد الشهية، وعزلة الناس ... أنغمس معهن في عد أسابيع حملي وقراءة تجاربهن المشجعة وفترة تبضعهن المبكرة للأطفال القادمين، يقلن لي أن التبضع التدريجي لطفلك يجعلك سعيدة بحملك، لا أصدق ذلك لكنه حلٌ ناجع، يقلن لي أن شراب الزنجبيل صباحاً والبسكوت المدور المالح " ريتز " سيقضي علي شبح وحم الأشهر الأولى  لا أصدق لكنّه ينجح! ينصحنني بالتمارين ، والثرثرة كثيراً وتصوير الأفرولات الضئيلة بحجم الذراع أو أقل لبعضنا، يصفن دهشتهن في إكتشاف جنس أطفالهن عن طريق تقنية ال4D، ويقلن لنا الأمهات الخبيرات بأن نعتمد ونصدق الصوت الداخلي لجنينهن وكونه ذكر أو انثى فهو أدق وأصدق، ويصدقن فعلاً ! .... تتحور مرحلة حملي السوداء بوائل لتجربة جماعية سعيدة ، مبتهجة ، ومنظمة ... تمتد خيوط العنكبوت لتنتشلني تماماً من ذلك المستنقع، وتمتد معها أواصر الصداقة الأمومية بالأمهات، لنقم بتبادل أرقام هواتفنا، وتصوير أطفالنا أثناء عضهم لأقدامهم وهم بعمر الستة أشهر كصورة جماعية، نبوح بأسرارنا في تجربة الفطام وبِدء إعتمادهم علي أنفسهم للذهاب للمرحاض .
نلتقي في العاصمة : ستة أمهات من مناطق مختلفة نقبل بعضنا بشوقٍ وحميمية كمن عرف الآخر حقاً ... هذه التدوينة قد تكون نواة أولية لتدوينات عن تجاربنا المشتركة كأمهات منذ الولادة وحتي عمر السنتين، خرجتُ من هذه التجربة بخبرات رائعة وصداقات مختلفة لم أتخيل أن تحدث لي في أحد الأيام، فشكراً لإنكن أصبحتن في حياتي .

 من الجيد أن أذيل هذه التدوينة ـ للأمهات في بداية حملهن ـ بنصائح قصيرة :
  1. تناولي حمض الفوليك على الأقل قبل حملك بشهرين وطوال فترة الحمل.
  2. وجود كوب حافظ للحرارة من مشروب الزنجبيل الخالي من السكر وبعض البسكويت المالح قريباٍ من مكان نومك حل جيد لغثيان الأشهر الأولى .
  3. أكتبي يومياتك القصيرة أثناء حملك، أول حركة لجنينك وتوقعاتك لشكله وجنسه، بعض الأسماء له والتي تفكرين تسميته بها .
  4. حاولي التعرف لمجموعة من الحوامل في المنتديات والشبكات الإجتماعية فصحبتهن تسهل عليك الكثير وتمنحك حلولاً أنت في حاجة إليها حقاً .
  5. مشاهدتك للأفلام الخفيفة كأفلام الأنمي والعائلة، الرسم والتلوين، الخروج في نزهة في ضوء النهار وتناولك للشوكولاتة الداكنة تمنحك جرعات من السعادة أنتِ وجنينك .


تعليقات

  1. سنترالات-PBX لتحسين اتصالات عملك وتعزيز إنتاجية فريقك
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/PBX

    ردحذف
  2. كل ما تحتاجه لإنشاء شبكة امنة من DrayTek
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/draytek-provides-you-with-everything-you-need-to-setup-your-network

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...