التخطي إلى المحتوى الرئيسي

31

إعتدلتُ في جلستي وعلمتُ فجأة أنني أقوى من الكسل وأقدر على أن أكتبُ اليوم كما أكتبُ دوماً ...

***

الحديث عن ذكريات المكتبة يبدو طويلاً ممتداً بلا بداية ولا نهاية، أدركتُ فجأة أني كبرت ... كان هذا في غاية القسوة لكنّ عودة الذاكرة بطريقة الفلاش باك لذكريات القراءة الأولى يجعلني أستشعر ثقل السنون التي تراكمت على جسدي و ذاكرتي: الكتاب الأول، رائحة مكتبة الكُلية العامة الواقعة في مبنى قسم علم النبات، معارض الكتب الكثيرة، قراءتي الأولى لماركيز في يوم العيد أثناء عرس أحد أقارب زوجي، قراءات نجيب محفوظ على سريري الحديدي في غرفتي التي  أتقاسمها مع أختي الوحيدة، منذ متى وصلتُ إلى هنا  وكيف ...؟؟
بحاجة شديدة لنومٍ كثير وعميق ..

***
بسلاسة شديدة  وبمتعة واضحة تقص الإيرانية فيروزة دوماس ذكرياتها في كتاب السيرة " مضحك بالفارسية ".
 في حين كان شفارتس يدلق ذكرياته في رأس راوي " ليلة لشبونة " بقساوة شديدة كمن يتقيأ سُماً، كان يريد أن يخلد الذكريات وحياة الذكريات في رؤوس الناس، وقد كان كتاب فيروزة دوماس خياراً جيداً للخلاص من رواية ليلة لشبونة الحزينة(١).  رغم إرتكازهما على ذات الثيمة : الذكريات .

***

تبدأ قصة تلك الليلة حين قايض شفارتس الراوي جوازي سفر صالحين وبطاقة دخول أمريكا ب قضاء ليلةٍ واحدة معه، الراوي والمدعو شفارتس ألمانيان يهوديان منبوذان من عالم هتلر إبان الحرب العالمية الثانية .
كان الراوي يظن أن الحظ السعيد بعث ب شخصق مخبول يتخلى عن بطاقة الذهاب لأرض الميعاد " أمريكا"، وسيلته للخلاص من العنصرية والموت مقابل قضاء الليل في الحانات أمام أطباق المازة و القريدس وكؤوس الخمر المعتق، ولم يظن أن الثمن الذي سيدفعه أبهظ مما ظن بكثير ... بل قد يساوي حياته.
" ـ وما شرطك ؟
ـ لا أريد أن أمضي هذه الليلة وحيداً.
ـ هل تُريد أ نمضيها معاً ؟ 
ـ نعم ، حتى الصباح. 
ـ وهذا كُل ماتشترطه ؟
ـ هذا بالتأكيد كل ما أريده.
ـ ولاشيء سواه ؟
ـ ولا شيء سواه . "*

* الرواية ص٩

لم تكن مجرد رفقة مؤجلة لرجلٍ يهودي منبوذ قد أخبلته الحرب، في الحقيقة كان شفارتس يملك فلسفته الخاصة تجاه الخلود ... لقد عاش حياة أكثر من إنسان وتخلى عن اسمه الذي وُلد به، واضطر أن يتزوج زوجته أكثر مرة ... وأن يتجاهل شكوك موتها القريب بكل برود ... لقد قرر أن يمنح الراوي أولاً : اسم المدعو شفارتس، وثانياً قرر أ يُخلد ذكريات حياته إبان الحرب مع زوجته هيلين وهجرته إلى أن وصل للشبونة برفقة هيلين الموجودة بتابوت في حجرة الفندق .
لا نهاية للذكريات سوى بالموت والنسيان، أراد شفارتس لهذه الأيام مع ـ هيلين ـ أن لاتموت أبداً بتذكره الدائم لأيامه ومغامرته الأخيرة معها .. كان بائساً، كان ميتاً بقلبٍ حي بعد وفاة هيلين، كان يحمل الذكريات في رأسه كرطلات مريعة، وثقيلة من اليورانيوم، وكان يريد لها أن لا تموت أبداً ... لذا قرر أن يرويها بكل مايستحضره من تفاصيل، مستجمعاً إحساسه بصدقٍ لانهائي أوصلهُ بدقةٍ شديدة للراوي بحيث لا يغادر كيانه أبداً .... فياله من ثمن !
مع نهاية آخر سطر في الراوية بدا لي أنها ببساطة رواية شفارتس، حتى الراوي الذي قد يكون ريماك نفسه أو لعله رجلٌ آخر عبر سلسلة لانهائية من الأشخاص رواها له وقرر ريماك ككاتب أن أفضل طريقة لخلود الذكريات ورميها من فوق كتفيه كعبيءٍ لا يطاق هو أن يكتبها كرواية، لقد أجاد الكاتب حقاً في نقل ما أراده شفارتس، رواية حزينة وموجعة، رواية ثقيلة.. بترجمة متقنة ولغة سلسة ... هذه نبذة، قراءة قاريء أصبح مممتائاً بالرواية وأراد أن تصل لقراءٍ آخرين .
إنها ببساطة رواية عن المدعو شفارتس... حتى تتضح الصورة أكثر هناك ٣ من الشفارتس :


  1. شفارتس الأصلي : وهو نمساوي يهودي مُهجر، كهلٌ مولع بالرسم واللوحات والفن ... في ليلة من الليالي بباريس انقذف شخصٌ يهودي الماني آخر في طريقه وبطريقة غامضة منحه جوازه وثروته المكونة من اللوحات الفحمية الأصلية للرسام الفرنسي جان آنغر،  وعدة طوابع ومبلغ من لمال ... ليجده هذا الألماني في اليوم التالي ميتاً في حجرته بسكتة قلبية.

  1. شفارتس الثاني : وهو رفيق الراوي في تلك الليلة السوداء بلشبونة بالبرتغال، ألماني يهودي متزوج من هيلين  .. وحكى حكايته البائسة معها أثناء الهجرة كنوعٍ من الوفاء لها وللأيام التي قضاها بحبٍ حقيقي لم يعرفاه أثناء ال ٦سنوات قبل إندلاع الحرب، يقول هذا ال شفارتس بغرابة أنه بمجرد ما وُضعت صورته في جواز شفارتس الأصلي بواسطة برونو المزور الشهير ... أصبح مهتماً باللوحات والفن فجأة، ولا يمل من إرتياد متاحف باريس بولعٍ حقيقي .
  2. شفارتس الثالث : الراوي الذي قبل الصفقة، ،مُنح جواز شفارتس النمساوي الفنان، يحكي الراوي أنه وبعد وصوله للموانيء الأمريكية إستيقظ بولعٌ مخيف بالمتاحف واللوحات والرسم، وأن زوجته العاشقة له قد مقتته وانفصلا بالطلاق .. وعاش حقاً كجوزيف شفارتس : مواطن أمريكي من أصول شرق أوربية.
***


" ..... همس شفارتس :
نحن فقط نستطيع ُ أن نحتفظ بها، أنت وأنا ولا أحد سوانا. 
ثم حملق بي:
ـ لاتنس ذلك... على أحدنا أن يتمسك بها كي لا ترحل! إننا إثنان وأنا أعلم أنها لن تكون بمأمن عندي... يجب ألا تموت بل يجب أن تحيا... إنها بمأمن لديك .!
تملكني على الرغم من كل الشك إحساس غريب .. ماذا يريد هذا الرجل مني ؟ هل يريد أن يحملني ماضيه إلى جانب جواز سفره؟ هل يريد أن ينتحر ؟ سألته :
ـ لماذا على الذكرى أن تموت داخلك ؟ إنك ستعيش ياسيد شفارتس ...
أجاب بهدوء : 
ـ لن أنهي حياتي... لن أنتحر بعد أن رأيت ليشلر وهو لايزالُ حياً، لكن ذاكرتي ستحاول تحطيم هذه الذكرى .. ستحاول أن تمضغها، تقطعها وتغيرها، حتى تصبح أهلاً لحياة وتفقد خطورتها ... على هذه الذكرى أن تبقى في مكانٍ ما ...عليها أن تبقى في داخل أحد على حقيقتها ولو لوقتٍ قصير. "*

* الرواية ص ٣١٤



ـــــــــــــ

(١) الرواية لإريش ماريا ريماك وهو روائي يهودي ألماني، ترجمة د. ليلى نعيم، إصدار دار أثر


تعليقات

  1. تهيئة حلول الاتصالات VoIP في السعودية وأهميتها للشركات

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...