التخطي إلى المحتوى الرئيسي

30

جوع القراءة



كُنتُ أتحولُ من إمرأةٍ دمشقيةٍ لطيفة إلى رفٍ شرس من الكتب في المكتبة العربية..


غادة السمان *
***

سأكتبُ هذه المرة عن كاتبين رغم الشهرة والصيت الللذان غُمرا بهما إلا أنها القراءة الأولى بالنسبة لي، لاحظتُ نفوري من الأعمال المفرطة الذكر والصيت، لدي شعورٌ مسبق بالتقيد حيال الجدل الدائر حول مثل هاته الأعمال .. إنها فعلاً طغيان الأدب والرواية كما كتب تاج السر في مقالً تحدثتُ عنه سابقاً ..

زوربا 



أليكسيس زوربا، شخصية حقيقية قابلها الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس في أحد رحلاته حينما سُئل ذات مرة، الكاتب  باسيل هو نيكوس.. زوربا رجلٌ حقيقي يرقص بجنون،  يمقت القراءة ولايجيد سوى قراءة الحياة، يبدو الرئيس كما يلقبه زوربا كاتب يعاني عدم القدرة على الكتابة، يبحث عن ذاته وسط قراءاته ومناجاته لبوذا ... وفي لحظة يأسٍ حزين واجهت المرؤوس زوربا ورئيسه : الكاتب باسيل .. قال زوربا بحنق لماذا تقرأ إذاً ؟

" هل تستطيع أن تُخبرني يامعلم، قال، وبدا صوته عميقاً وجاداً في هذه الليلة الدافئة، ماذا تعني كل هذه الأشياء من صنعها جميعها؟ ولماذا؟ والأهم من كل ذلك ـ هنا ارتعش صوت زوربا ابالغضب والخوف ـ لماذا يموت الناس؟
ـ لا أعرف يازوربا .
.... لبث صامتاً لوهلة ثم انطلق فجأة :
ـ حسناً كل هذه الكتب اللعينة التي تقرأها ما الفائدة منها؟ لماذا تقرأها؟ إن لم تكن تخبرك عن ذلك، فعما تُخبرك ؟ " (١)

كتب نيكوس كازانتزاكيس السيناريو وأنتج الفيلم المأخوذ عن روايته المثيرة، كان أنتوني كوين هو المؤدي لشخصية زوربا ... هل أقول إن زوربا قفز من الصفحات ليتقمصه كوين؟
أدى كوين العديد من الشخصيات الأدبية ذات التراكيب النفسية الصعبة أداها بإقتدار كما لو كان هُمْ  !
مثل شخصية عمر المختار وزوربا و كازيمودو في أحدب نوتردام و لورنس العرب  .... السؤال : هل قرأ أنتوني كوين عن هذه الشخصيات ؟
قطعاً نعم، فالقراءة الجيدة الحقيقية لابد وأن تقفز بأي شكلٍ من الأشكال على القاريء، أنتوني ممثل وقاريد كانت النتيجة شخصيات حقيقية رائعة محدودة التكرار .. لستُ أدري لما قفزت فريدا كالوا التي قامت سلمى حايك بأداء شخصيتها في فيلم فريدا .. كان تقمص سلمى المجنون مشابهاً لتقمص كوين...  في حاجة للقراءة ومشاهدة المزيد من أداءه السينمائي، طالما سمعت عن إعجازه التمثيلي وحان الوقت لمصافحته ومسامرته عبر أدوراه العديدة .
الفيلم كاملٌ سينمائيا وناجحٌ جداً، الموسيقى فيه صُنعت لأجل رقصة زوربا المتفردة صنعها الموسيقي اليوناني ميكيس ثيودوراكيس .. سيرة هذا الموسيقي أيضاً محفزة للقراءة والبحث .


كونديرا : كاتب التفاهة*

حل عيد ميلاد الكاتب التشيكي ميلان كونديرافي الأول من إبريل دون أن يحوز نوبل ، وقد تساءل المجتمع الأدبي الدولي عن عدم حصوله عليها أكثر من تساؤله هو نفسه ..
يكتب عبثاً هذا الكونديرا ، قرأته المرة الأولى قبل أسابيع في فالس الوداع ... رواية في خمسة أيام بطلها العازف كليما، ـ لاحظوا أن كونديرا موسيقي كذلك حيث درس الموسيقى في مقتبل حياته في التشيك ـ وروزينا الممرضة التي حملت سفاحاً منه أثناء لقاءٍ عابر بين العازف والممرضة.


 ثيمة الكاتب البطل 

في زوربا كان نيكوس هو الرئيس ـ أو المعلم كما ترجمها خالد الجبيلي ـ  في رقصة الوداع كان في كليما العازف بعضاً من كونديرا : الحرف الأول، الموسيقى... وكان في جاكوب ـ صديق الدكتور ـ  نقمته وهربه من بلاده التي تطارده بمخلب كلب ، اللفتة الهزلية في رواية كونديرا كانت عبر عبث الطبيب سكارميتا اللامعقول حيث كان يمنح نطافه لمريضاته الباحثات عن الأمومة ! مماجعلني أتخيل كل أطفال المدينة التشيكية الصغيرة على هيئة سكارميتا بأنفه الطويل ونظارته .


***

مات جورج طرابيشي في ١٧ من مارس... مترجم وكاتب غني حقاً عن التعريف ... سأقرأ زوربا يوماً ما بترجمته فزوربا رواية لللحياة وقِطعاً لا تُقرأ مرةً واحدة !  ترجمة خالد الجبيلي جيدة جداً، و كما قرأت كانت الأقرب للنص الأصلي ، جورج وخالد كلاهما من رحم حلب السورية .السلام على سوريا وبطنها التي مافتئت تُنجب للأمة كُتاباً وعلماء ومترجمين .. السلام عليكِ يا أم العالم.


***

قراءة فارغة وكتب ممنوعة

كان يُمكن أن أقرأ الروايتين بشكلٍ أفضل من هذه القراءة الرثة، الكسولة .. حيثُ  مُورس فعل القراءةعلى السرير، أو بالإسترخاء على أريكة الصالون اللينة ... حالياً أقرأ رواية ليلة لشبونة لإريش ماريا ريماك ... وفيها كانت القراءة بالقلم، القراءة بتيقظ وإنتباه، إنها القراءة بإمتلاء ... فأن تقرأ بلا قراءة هذا ما أسميه بجوع القراءة، فراغ مابعد القراءة،  إنها قراءةٌ بلا روح . أعدُ نفسي أن أقدم مستقبلاً قراءة وافية  لأصحاب الطرد والكتب الممنوعة: نيكوس المدفون خارج الكنيسة بعد كتابه المسيح يُصلب من جديد، وميلان كونديرا منعت كتبه خمس سنوات من قبل السوفييت بسبب ميوله الديموقراطية المتمثلة في إنتمائه لحركة " ربيع براغ " والتي على أثرها هاجر لفرنسا ... أما ليلة لشبونة ـ القراءة الحالية ـ  فقد حرقها النازييون هي وأخواتها من مؤلفات ريماك لخيانتها الأدبية للجنود الألمان.


ـــــــــــــــــــــــ
* من لقاء في مجلة العربي إبريل ٢٠١٦ مع السورية غادة السمان
* آخر رواية كتبها الثمانيني ميلان كونديرا كانت بعنوان " حفلة التفاهة" ... قال النقاد عنها إنها رواية مختصرة لمجمل أعماله!
(١) رواية زوربا ص ٣٣٨ من دار الجمل.


تعليقات

  1. توفر شركة مدن الاتصالات العديد من الحلول التقنية لحماية تهديدات أمان الشبكة
    https://modn.com/en/network-solutions?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-101

    ردحذف
  2. تهيئة حلول الاتصالات VoIP في السعودية وأهميتها للشركات

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحر وكتاب وقمر

" لتبدأ الحياة كل يوم كما لوأنها بدأت للتو " غوته ( 1 ) الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر . ( 2 ) البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأق

هل ننجو من لعنة الفراعنة؟ إليكم ماحدث ..

مقولة مثل كل المقولات ! رماها أحدهم في الفضاء وتلقفتها الأفوه؛ لاكتها، عجنتها، تندرت بها، توجست منها، ثمّ: صدقتها . تلك هي حكاية لعنة الفراعنة باختصار ! منذ أن افتتح كارتر مقبرة توت غنع آمون وهناك من يؤمن بتلك اللعنة، وهناك من يضحك على من يؤمن بها … لعل ضحكه يدفع شراً ما، لكن الجميع يتفق على أنها ظاهرة غريبة ليس لها تفسير، أو قد تحمل تفسيراً أُوري في الخفاء كما يحدث مع ظاهرة موت لاعبي كرة القدم بالسكتات القلبية هذه الأيام :) ! لم يمت أحدٌ ممن اكتشفوا مقبرة (واح ـ تي) في نوفمبر  2018 ، وهو مسؤول كبير _ كاهن للسلالة الخامسة من أسرة الفراعنة _ ، حوت المقبرة عدة موميات لوالدة هذا الكاهن وأولاده وزوجته، إضافة لموميات لبوة وشبل أسد، حوت المقبرة قصة حياة " واح تي " وتاريخاً آخر لصراعٍ عاشه مع مواطن فرعوني آخر أراد أن يطمس حضوره بعد الموت واستولى على المقبرة عله يحظى بجنة (واح - تي) بعد الموت ! خلال ساعتان مركزة من السرد المرئي لاكتشاف غرفة  

ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة

  تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة!  تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟ بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة  بمثابة احتفال قرائي أختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، أسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي. مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل. في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة. فرانكشتاين في بغداد: اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد).  بدأت بها مساء يوم العيد بعد إرهاق التقبيل ا