التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حوادث صغيرة

كان تناولي للبيض المخفوق مع العسل من أولى مغامراتي وأنا طفلة ... لقد ناولني أبي كوباً  مملوءاً بسائل برتقالي ظننته عصير برتقال لأكتشف بعد أن اخترقتني كثافة البيض السائل أن أبي كان يبحث عن علاج لسعالي المزمن في وصفة شعبية قوامها بيضٌ نيء وعسل لانجنيز الألماني 

***

سرقتُ مثلجات خالي الذي يكبرني بأربعة أعوام  من الفريزر في بيت جدي وجدتي، عاقبني بأن استغل فضولي في أحد الأيام. طلب مني أن أرى ما داخل حاوية القمامة أمام البيت لتقفز قطةٌ سوداء على وجهي! حرفياً :  لقد قفزت عليه، لتتسلق فمي وأنفي وشعري وتحدث خدوشاً فيه، ونِدبةً لازلت أحملها داخلي حتى الآن على هيئة رعبٍ من القطط .

***

قصصتُ شعري .. لا أذكر سوى أني أردته قصيراً مثل ما يُسمى : " الكاريه الفرنسي" .. لكنه غدى أقصر من ذلك كشعر الأولاد بخصلاتٍ طويلة كستنائية .. في البداية قمت بتسريحة كجديلةٍ على ظهري ومن ثمَّ أمسكتُ المقص بيدي اليمنى عمودياً للأسفل بوضع مقلوب .. وقصصته ! لقد غضبت مني أمي .. لكن صديقتي نورة ذات الشعر المتقن القصير قالت : أنها قصةٌ بديعة .. أما جارتنا أم بسام قالت لي : _أثناء زيارة الجيران الصباحية_ أنها ستقص ُ شعرها مثلي !

***

محمد ابن خالتي فتى لايمكن أن تجد له شبيهاً، أو أنه من الأشخاص اللذين قد تقابلهم لمرة واحدة في حياتك، يسوق دراجته بيدين مفرودتين دون الإمساك بالمقود، وجهه دائماً ملطخُ بالسواد جراء لعبه المستمر في الحواري المتربة، شعره يشبه الفلبينين وسنه الأمامية مشطوفة .. كان رذاذ لعابه يتطاير على وجهي دائماً  دون أنّ أمسحه، فقد كُنتُ مأخوذةً تماماً ومبهورة ب مغامراته وهو يرويها .. قال لي بأنه شهد إطلاق نار ذات مرة... وأن الرصاصة مرقت بجانب أذنه، أراني شحمة أذنه وهو يصرخ " شوفي محروقة من هواء الرصاصة الحار " أوميء خائفة ومشدوهة، وإن لم أرّ جيداً أثر الحرق ... فلا يهم،  فقد مرت بجانبة رصاصة وهذا يكفي !

في أحد زياراتنا لبيت خالتي : رأيته واقفاً يقضم ساندويشاً محمصاً بالبيض، قال لي : " إنه بالشطة، تريدين ؟ "، هززتُ رأسي موافقة، قال وهو يتلمظ : " انه من البوفية التي تقع بعد قطع الشارع وامك ترفض الذهاب لها " قبل أن أطلب منه أن يحضر لي واحدة قال مستدركاً : " هناك طريقٌ مختصر، لكنه يحتاج إلى مرافق لايخبر أحداً عنه، إنه يحتاج لناسٍ لاتخاف .. هل أنتِ خائفة ؟ "
قلتُ له بأني لا أخاف و وجيب قلبي يرتفع ويكاد يخرج من صدري، كان حذائي الأسود اللامع ضيقاً على كاحلي الممتليء ، قلت له " سأخلع حذائي " سحبني بيدي راكضاً وقال " مافيه وقت بيسكر الدكان " .
نركض عبر درجات بيتهم متجهين إلى السطح كان سريعاً وقبضة يده مؤلمة ، جلدها يابس وقذر كوجهه.. يضع ثوبه(1) في فمه ويعض عليه وينطلق بسرعة أكبر .. الحذاء ! إنه كجرح ضخم ينغرس في قلبي، إنه مؤلمٌ جداً، لا أتكلم ولا أقول لمحمد عن ذلك.. فلا وقتَ يوجد للحديث أو الكلام، هناك اللهاث فقط .. نصلُ السطح الواطيء، يهمس لاهثاً : "بسرعة قبل أن يأذن المغرب" .. ننطلق لجدار السطح ويقف على حافته: " نطي مثلي ، هاه " أنا خائفة ولكن لاوقت للخوف سأغمض عيني ولا أنظر للهوة بين السطحين .. يقفز للسطح القريب متعلقاً بحبل غسيل معدني مُعلق بين البيتين كالقرد .. " نطي، هيا بسرعة ... أمسكي بالحبل هكذا ونطي " .. أقفز وأنا متشبثة بالحبل الحاد وكاحلي يصرخ .. لكن شطيرة البيض الساخن تستحق ذلك . أصل لسطح المنزل المقابل المظلم .. منزلٌ طيني مهجور... أسمع صوتً خشناً خلفي  : " من أنتم ؟!" ...لا ألتفت فمحمد يصرخ : " بسرعة اركضي ! ... هيا أسرعي ! " .. أركض وكاحلي قد أصبح لزجاً ورطباً ، موغلاً في الألم ... لكني أركض بسرعة وأصل لمحمد الذي يخطف يدي لننطلق عبر الدرجات العطنة في الظلام .. يدلف أبواباً لا أراها .. إنه مجنون وسريع جداً .. أنا خائفة لكن البيض بالشطة يستحق!  لابد أنه حامض وحار. نخرج نجد الشمس  قدغابت، والشفق الأحمر يبدو من بعيد.. لازال يركض طيراناً :  " بسررعة سيأذن الآن " .. نصل للبوفية والأذان يرتفع، أخيراً العامل الباكستاني يناولني الشطيرة ملفوفة في ورقٍ أبيض . أفضه وأرى أصابعي شبيهة بوجه محمد، وكاحلي غارقٌ بالدم .. لكن كما تخيلتها : ساخنة ولاذعة،  ولذيذة .

(1) الثوب : الدشداشة الخليجية




تعليقات

  1. حكايات صغيرة ولكن جميلة ، مبهجة يافاطمة

    ردحذف
  2. كلنا نمتلك حكايات ومغامرات سرية صغيرة .. أحياناً تكون حزينة :( .. شكراً هاجر لردك كل التحايا

    ردحذف
  3. إنشاء الشبكة بصورة احترافية مهمة أساسية لتأمين ونقل البيانات
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/build-a-secure-and-reliable-network-for-your-business-why-and-how

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...