التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إنني لا أقرأ يا أمي


إنني لا أقرأ يا أمي، لم اعد أملك القدرة على فتح كتاب، غدا مخي يرسم خيالاتٍ حامضة في كل صفحة أقلبها.. توقفت عن الأخوة كارامازوف بعد أن ضقتُ ذرعاً بحديث الأب زوسيما الرتيب المنخفض، وعيون ألكسي المتسعة في إستنكارٍ صامت. ونقاشات الأخ إيفان و والسيد ميوسوف.
أردتُ قراءة أهالي دبلن، ولم أقدر سوى على ثلاث قصص تحديداً .. مليئة برائحة السعوط والكهنة، مزاج جويس مخيف وقاتم لكنه حقيقي تماماً لدرجة ان رائحة موت الكاهن العفنة تسللت لأنفي وأنا أقرأ قصة "الأخوات" ، ورأيتُ بعينيّ ظلام سوق آرابي وهو يقفل مطفأً انواره في القصة الكاملة " سوق آرابي ".

إنني لا أقرأ يا أمي، ونفسي بلونِ الكُحل، وجسدي واهن وضعيف كورقة مثقوبة، ولا أحد يتحمل شكاية بلا حجم سوى قلبك الممتد حباً، أعلمُ أن ما أكتبه وما كتبته قد لاتقرأه عيناكِ يا أمي، لكن ربما هذا السبب الذي يجعلني أكتب لك، لإن أحدثك دون أملأ قلبكِ بحزني ، وقلقلي ، ونزقي، ومزاجيتي ، وأحلامي، وثرثرتي.. حاولتُ مرة أن أحتويك وأن ألصقَ صدركِ بصدري حين بكيتي في المرات القليلة التي رأيتكِ تبكين فيه، حاولتُ إحتضانك، وإذ بكفيك المكورتين كقبضة لينة تُبعداني، تبعداني عن حرارة حزنك، لا تريدني أن أشم رائحة إحتراق الروح بنار الحُزن، ولا أن أرى دموعك، فتبكين دون دموع كي لا تحفر دموعكِ أخاديد في ذكرياتنا، تريدين لذكرياتنا أن تزهر حقولها بضحكتك، بحنوك وأنت تكتبين لي واجباتي و واجبات أخوتي ونحنُ في الصف الأول. كنتِ تمسكين المشط البلاستيكي لتقنعيني تلك الأيام بان تسريح شعري في كتلتين وشريطة بيضاء هو الأجمل.. أذهب للمدرسة مزهوة بشعري المنسق بعناية، تضحك علي طالبة أكبر مني، تطلق نكتة سمجة،أعود بذات التسريحة ولا أخبرك عن ذلك يا أمي، لكني بعدها طلبتُ العودة لتسريحتي السابقة.
أعلمُ أننا مختلفتان كثيراً، ربما منذ إختلافنا على تسريح الشعرِ حينذاك، لكني أحبكِ كثيراً يا أمي، أحب إختلافك الحنون، وبساطة قلبك، أحبُ أننا نتشابه في القراءة منذ أن أكتشفتُ قدرتي الذاتية على القراءة وأكتشفتُ أنكِ قارئة، أقرأ ماتقرأين .. قرأتُ معكِ بائعة الخبز لكزافيه دومونتيان، وأساطير شعبية لعبد الكريم الجهيمان، قرأت مجلات نورا المصرية، قرأتُ مايزيد على 40 مجلة قديمة مخبأة في المخزن، وفيها أجدُ قصة حياة عبد الحليم حافظ وليلى مراد، ونجيب الريحاني وصباح، ومريم فخر الدين، وليلى فوزي وعزيزة جلال وحتى قصة حياة صاحب المجلة ومدير تحريرها اللبناني الأصل الذي لا أذكرُ إسمه .. أقرأ معكِ ماتقرأين وأنتِ لا تدرين، أخبرتكِ اليوم عن ذلك، وضحكتِ كثيراً وقلتِ أنها مجلة رائعة، وتساءلتِ بجدية كيف لم يمكنك إكتشافي وقتها ... قلتُ لكِ أنني عنيدة أفعل ما أريد وذكرتكِ بحادثة قص شعري، حين جمعته في ظفيرة متوسطة السُمك وقصصته بشكل متدرج حتى أذني، وبكيت لإني رأيت نفسي أقرب للصبيان، وحين زارتنا جارتنا أم بسام وضعتُ شالاً على رأسي الذي انزلق وأنا أهرب وهي تسألني عما فعلت، هربتُ إلى أبعد غرفة عن المجلس كي لا أسمع نداء جارتنا، لكني سمعتها وهي تمتدح قصة شعري وأنها أفضل من قصْ أي مصففة محترفة ! سألتك فيما بعد عن ذلك وضحكتِ وقلتي لي بأن قصة شعري كانت رائعة حقاً وكأنها بمقص محترف.
إنني لا أقرأُ يا أمي ولا أكتب، أفتقدُ الكتابة... والأحاديث التي ترمي بها الكتب في حجري لأدونها، أفتقدُ حماسي القديم وتلك الحالة المحمومة الأشبه بالهذيان والتي تجعلني أقفز لحاسوبي لأدون.
 أفتقدُ حلمي، أفكاري،.. ودائماً ما أفكر بما قاله أمبرتو إيكو _ وهو كاتبٌ إيطالي رائع وملهم بأحاديثه ومقالاته وقصصه _ من أن المرء في هذه الحياة لا يملك إلا خياراً واحداً : " ان يكتب كتاباً، أو ينجب طفلاً " ..
فهل يصدقُ حدسُ إيكو الحكيم ؟
إدعِ لنا ربكِ ألا يَصدُقْ يا أمي .

تعليقات

  1. بوح فيه ترنيمة عذبة ... تتحدث عن كثير و منهم انا ... تختلط فيها رغبات و ذكريات .. همة فترت بعدما ظنت انها وجدت مبتغاها فى عالم احلام الرويات والقصص ولكن يبدو انها لم تستطع ان تصل بنا الى سقف الكفاية .. ربما نحتاج الى شئ اكثر عصرية من الأخوة كارامازوف .. خيال من الحاضر او المستقبل .. ربما
    تحية طيبة

    ردحذف
  2. تحية لك مستمرة .. عملك ممتاز ومشجع

    ردحذف
  3. http://mtatar.com/ts5/register.php?ref=254

    ردحذف
  4. أهمية حلول VPN وربط الفروع بشبكة موحدة لقطاعات الأعمال
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/bring-all-your-branches-together-with-a-top-notch-vpn-service?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-107

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...