التخطي إلى المحتوى الرئيسي

22




كنتُ خلال الأيام الفائتة أبحث عن نمطٍ معين أكسي به هذه اليومية، ثيم موحد لكل الحكايات التي سوف أحكيها .. وانا نائمة ظهيرة الأمس في قيلولة مبللة بالخلط والتفكير في قراءات تتالت علي في الأيام القريبة الفائتة، تناهى إلي صوتُ الصمت، همسة صغيرة تشي بأن الثيم المناسب والمفتاح لكي أكتب في القراءة الثانية والعشرين : هي الصمت .

***
وقفتُ صامتة في الليل قرب الفجر أمام رفوفي المهتزة، أعزي نفسي بأنها خشب زان حقيقي صممها عقلٌ سويدي من متاجر الأثاث المعروفة .. إنها صغيرة وقد وضع ملصق قبل شراءها بأن أقصى أوزانها التي تستتطيع رفوفها حضنها هي 5 كجم، أتغاضى عن ذلك، ولا اتنازل عن تقسيم الكتب والمجلدات الصديقة جنباً لجنب_ وإن بلغ مجموع أوزانها مثلاً 20 كجم ! _ المؤلفات الألمانية القليلة اقتسمت مع الروسية ذات الرف، الأدب الإنجليزي والأمريكي في رفٍ واحد، وكذلك السوداني والمصري، جروح العراق وفجوة فلسطين الدامية وسط هويتنا، ونزيف سوريا الذي تجمد في مخيماتهم وحاراتهم ي يصطفون في رفٍ واحد... صدق بورخيس حين قال بأن المكتبة كون بلا حدٍ لتكراره .
الرفوف هذه هي الأنسب لي لمن يقطن بيتاً صغيراً مستأجراً على ضفاف النقل ، وضعتها في الصالة ، كان هناك جدار وحيد فارغ، كتمت نَفَس الجدار وصفتُ ثلاث مكتبات سويدية خفيفة، الجدار صامتٌ وثقيل تماماً.. حتماً سعيد بالحيوات الكثيرة التي تتسرب من الكتب إليه ، طوبه سيشبع، ودهانه سيزهو أمام بقية الجدران بأصوات الكينونات الحبرية .. سيكتنز بالقصص الطويلة والقصيرة وسير الناس وبعضاً من تاريخ .

بعد كتابتي لهذه التدوينة سأكتب التدوينة التي أقوم فيها بجردٍ لذاكرتي ورفوفي أقوم به بمسح قراءاتي لهذا العام، حاولت قبل ذلك بلإستناد على  جيوب الذاكرة الماضية، فقط جرد الكتب التي مرت علي كشاشات سينما، وأخفقت .. إختلط لدي كتب العام ماقبل الماضي بكتب هذا العام ...قراءتي هذه السنة كانت تبدو ضئيلة وغير مكتملة، هناك كتب مثنية الأوراق في إنتظار التمام.. وهناك كتب إكتشفتُ أن قراءتها بالطريقة العادية من الصفحة الأولى إلى آخر الصفحات لا تجدي معها .. مثلاً  : كتاب في الثورة لحنة أرندت  بدأت بقراءة الصفحة الأربعين صفحة الأولى ثم توقفت، لإني كنتُ أحرك عيني بأتوماتيكية دون أن تلج السطور لعقلي ووجداني، مجرد إلتهام وقت، وتبرير لنفسي .. وضعت الفاصل عند الصفحة وإنتقلتُ لألكسندر بوشكين .. الذي نقلني بمهارة أيضاٍ مرة ثانية لكتاب حنة .. "في الثورة"  من الكتب السخية ، التي تملك أبواباً يدلف قارئها عبرها ويلجُ إلى عوالم أخرى : كتب، روايات، أشخاص، نظريات .. أو أن قراءاتك لابد وأن تحيلك إليه كمرجع غزير في مرة من مرات قراءتك ..
الثورة؟  ماهي هذه الكلمة التي غدت في الآونة الأخيرة تقفز لآذاننا كثيراً ككلمتي : " نعم و لا " في السنين الأخيرة؟ كمعنى ومفهوم لفظي الكتاب يشفي غليل التساؤلات، هذا الكتاب كنز...لإنك ستكتشف معنى الثورة ولماذا ثارالإنسان ؟ ومن هو الإنسان الثائر لأول مرة ؟ وستصاب بالمزيد من العطش للغوص في عالم الثائرين كما أفعل هذه الأيام ..
***

وأنا أقرأ : " إبنة الضابط " لإلكسندر بوشكين لم تفارقني صورة دون كيخوتة وحارسه سنشو التي بُنيت في مخيلتي، حيث كان الخادم العجوز سافلش يقوم مقام نشو .. وفيما كانت بعض تصرفات بترو العجولة الحمقاء كأنها خطوات الدون العظيم في الرواية الأولى، مع كل صفحة في إبنة الضابط كانت صورة دون كيشوت تقفز ... وصلتُ إلى صفحة باح بها بوشكين بهذا التشابه حين صاح شفابرين بسخرية وهزء من حال بترو كفأرٍ مخنوق : " ما أنت صانع يا دون كيشوت بيلو جوسكايا ؟! " .. ولا تسألني بعد هذا ماهي بيلو جوسكايا :) ..
الأدب الروسي متجدد في كل زمن، قرأت لدستوفسكي ولتشيخوف والآن لبوشكين ... صحيح ان المادة النثرية، المادة الخام أُقتبست من حوادث سابقة قديمة، لكن الكاتب الروسي يمنح نصه خلوداً حين تتلمس حروفه ذات الإنسان، فلا يبلى بل يتجدد شاباً ويافعاً كل قراءة.. في إبنة الضابط  كانت الركيزة القصصية التي أدهشتني هي العلاقة بين يوجاتشيف الغاشم المغتصب والضابط بترو أندرفتش، بداية الحكاية كانت مذهلة حين تسربت رؤيا في منام الضابط اليافع لرجلٍ رث بلحية سوداء ينام في فراش والده وكأنه يحتضر! شيء جعل قلبي يتوقف وكأني بترو ذاته حين استقيظ من كابوسه مغطى بالعرق لاهثاً لا يجد جرعة هواء بعد هذا الحلم الفظيع!
بعد هذا يقابل بترو يوجاتشيف في كوخٍ قذر هاربين من عاصفة ثلجية ويشفق عليه رغم توقد العينين السوداوين بالشر، ويهديه معطف فراء الأرنب وكيساٍ من الروبلات جعلت سافلتش ناقماً على كرم السيد طوال الرواية، وإن استدرك فحمد الله حين وقف معطف فراء الأرنب بين المقصلة ورقبة بتروشا كعربون إمتنان بلا حد منحها القوزاقي بوجاتشيف حين صار أمبرطوراً !
العلاقة بين الضابط والأمبرطوار اللص هي التي حملت براعة ولب القصة كلها، قامت علاقةٌ وفية بين نقيضين كعلاقة والدٍ بولده وثق اللص بالضابط بلا ضمانات، ومنحه الضابط الوعد بألا يشي به وإن كان ضمن صفوف عدوه.  هنا قمة الصداقة الإنسانية المجردة والوفاء الخالص، رغم أحجار العثرات الضخمة القائمة بين علاقة غاية في الغرابة كهذه : أقصى الشر لغاصبٍ سكير، معتدي، وبين أقصى الخير لضابطٍ نبيل، شجاع وعاشق .. كانت قصة تستحق من بوشكين أن يدونها بأسلوبه الشيق كراوي.
 كانت تقنية السرد التقليدية تناسب مجريات الرواية التاريخية، حين بدأ السارد وهو بتروشا ابن الضابط القديم آندره بتروفتش بقص حكايته منذ مولده، وتسلسلها حتى النهاية التقليدية الذي انتقل فيها السارد إلى الراوي بوشكين نفسه حين بين أن الرواية هي مجرد مذكرات حقيقية _ ( ولا نعلم صدقاً عن حيل الكاتب فهل كانت حقيقية هذه المذكرات أم أنها حيله سردية! ) _ لمذكرات بتروشا ، وقص علينا ماآلت حاله إليه في النهاية وعفو الملكة له بطريقة جذابة، ووقع لنا في النهاية بـ :
ناشر المخطوطة : ألكسندر بوشكين ..

***
الخطوة القادمة التعرف على بوشكين أكثر، شاهدتُ وثائقياً قصيراً مكثفاً عن حياته وأدبه ... الأفلام الوثائقية المتقنة كتبٌ مرئية جيدة، أريدُ ان أقرأ قصصه، فمن بين سيرته السريعة المشاهدة إتضح الأثر الجلي لتأثر ه بالشرق العربي وأدبه، بل أنه وردت بعض الحكايات أن كان يستمع لتلاوة القرآن من جده ذي الأصول الإفريقية .. كتب قصة : "روسلان ورودميرا " متأثراً بحكاية أبو محمد الكسلان في ألف ليلة وليلة .. هذه السنة سيرافقني ثلاث كتب في قراءة مستمرة متقطعة، لطول فترة قراءتها، وتنوع موضوعاتها وهي : في الثورة، مجلدا ألف ليلة وليلة .

***
" الأفلام الوثائقية المتقنة كتبٌ مرئية جيدة "
نعم بكل ثقة، اليوم سأكمل مشاهدة وثائقي عن جلال الدين الرومي، بعد قراءتي لقصته مروية أيضاً عن طريق الروائية التركية إليف شافاق، الرواية التي تفتح آفاقاً لقارئها يدلفها لأول مرة هي حتماً روايةٌ جيدة .. تعرفتُ على عالم الصوفيين، الحب من وجهة نظر أخرى، الأسرة، ومشاعر إمرأة في ميلادها الأربعين... سأكتب بإستفاضة إن شاء الله في التدوينة التالية بعد مشاهدة الوثائقي .
سأقف بعد قليل لأختار روايتي التالية، أحب هذه اللحظة أتمنى لو استطعتُ تجميدها، كما نفعل في المعمل حين نحفظ العينات بسائل الكلوروفورم !

تعليقات

  1. أهمية حلول VPN وربط الفروع بشبكة موحدة لقطاعات الأعمال
    لمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية|
    https://modn.com/ar/bring-all-your-branches-together-with-a-top-notch-vpn-service?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-107

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...