يقول مانغويل : " لاحظ بوتزاني منذ إمتهانه الكتابة، بأن الناس يسمعون صدى كافكا في أعماله. بسبب هذا يقول : إنه لم يشعر بعقدة نقص وإنما بعقدة إزعاج، على إثرها فقد كل رغبة في قراءة أعمال كافكا " * من كتاب يوميات القراءة
ذهبتُ اليوم إلى المكتبة، هذا العام هو أكثر الأعوام بهجة وغرابة في حياتي .. زرتُ فيه العديد من المكتبات ووصلتني كتبٌ مهداة لا تقدر بثمن لقيمة المكتوب داخلها ولقيمة معناها، وحصلتُ على نتاجاتٍ أدبية لكتابٍ كنتُ أظن تراخي المكتبة العربية عن ترجمة مؤلفاتهم .. مثل الإيطالي الكاتب الفنان : دينو بوتزاني .
***
بعد أن عثرتُ على : " الجنرال المجهول " لبوتزاني وهي مجموهة قصصية ، إتجهت صوبَ قسم الروايات ، عاينت فيها مؤلفاتٍ جديدة لدستوفسكي ، نبشتُ بينها عن " ذكريات بيت الموتى " و " في قبوي " بعد توصية معبأة بالإصرار من قبل الأصداقاء وبعد قراءتي لقائمة حسن مطلك، خاب أملي حين إمتلأت اناملي بالغبار ولم أجد أي منهما وسط مؤلفات العبقري الروسي، ذهبت لآخر الرف حيث تقبع نتاجات اللندي متيمنة إيجادي لكتابها الغريب سرداً وموضوعاً " أفروديت "، لم أجده أيضاً، حملت بوتزاني مع كثيرٍ من ذرات الغبار ونسخة شاحبة إلا أنها أقل النسخ مقارنة بالأخريات إمتلاءاً بالغبار ل " المغزول " لعبد العزيز مشري ... نقدت البائع 30 ريالاً وخرجت مليئة بالحبور .. فـ الآن سأقرأ لكافكاوي آخر لم يقرأ كافكا أبداً في حياته !
***
" وجودنا سريع الزوال، إلى حد إننا إن لم نسجل في المساء أحداث الصباح، فإن العمل سيثقل علينا وسوف لن يكون لنا وقت كاف لتدارك ما فاتنا أن نسجله في وقته "
*شاتوبريان
لم أعتد بنصيحة شاتوبريان، ولم أحاول أن تكون جدية كتابتي لهذه اليوميات مامعدله النصف من جديتي الحقيقية تجاه أي عملٍ حياتي، أنا الآن أحاول أن أجد الجدية تلك في أي قرار اتخذته في ماضيّ.. أراجع القرارات المهمة في حياتي: الدراسة لا، الحب لا، تكوين أسرة لا.. حتى معاودة الدراسة لم تحظ بالجدية المطلوبة، ربما ما قصدته من الجدة كان حين اتخذت قرار التخلي عن العدسات المقعرة وتوجيه حزم الليزر عالية التردد وضئيلة الطول الموجي إلى عينيّ .. كنتُ وقتها أرتجف وأنا أحادث الطبيب، قال لي هيا بعد قليل ستتمكينين من مشاهدة عقارب الساعة البعيدة تلك، كانا العقربان يدوران بسرعة هائلة لمجاراة نبضات قلبي كما تخيلت، سألت الطبيب الحجازي بحشرجة : هل أستطيع أن اقرأ يا دكتور ؟ رفع إلي وجهاً مربعاٍ أليفاً _لكن به مسحة من غرور لم تمحها الألفة_ : صدق ؟! أنت تقرأي ؟ ايش تقرأي ؟ ..قفز اسم نجيب محفوظ فوراً على لساني : نجيب محفوظ، أيضاً أحب الكتابة يا دكتور .. قهقه الطبيبي وقال : جميل اكتبي قصة عن تجربتك الآن .. كنت ارتجف واصابع قدمي بدرجة الصفر تقريباٍ .. أما قلبي فقد غاص حين تصاعدت رائحة الشواء من عينيّ، وخلتُ أني امسحُ دماً على خديّ، حينها التفتُ ورأيت عقارب الساعة السوداء وسط لونٍ أصفر _بسبب اليود اللازم للتعقيم _ كأضخم عقارب ساعة في الوجود وهي تلدغُ الرابعة عصراً !
***
" وأنا صغيرة كنتُ أعتقد أن الشيطان يظهر ليلاً في المرايا "
* إيزابيل اللندي
إذن : فيومياتي مراكمة أعتذرُ منكم .. قرأت ثلاثة كتب خلالها : حصيلة الأيام لإيزابيل اللندي، وادي إبراهيم لصلاح القرشي، وبقية كتاب فن القصة ليوسف نجيم .
لنبدأ من بقية كتاب إيزابيل ... هذه المرأة مجنونة تماماً بيومياتها السريعة المليئة بالحكايات والتفاصيل، وحكاياتها ومغامراتها التي لا تُصدق ! في الجزء الأول وصفت مغامرتها في تدخين سجائر المارايجونا في حديقة صديقتها تابرا. حين تقدمتُ قرأت تجربتها في الأمازون حين تناولت سائلاٍ كثيفاً ذا لونٍ مريع شبيه بالطحالب المتعفنة وله طعمٌ أكثر بشاعة لا يمكن وصفه، من سحرة الأمازون لتغادر عقلها الواعي إلى لاوعيها حين كانت طفلة تتسقى بقصص جدتها وأشباحها كحليبٍ مهدئ لما قبل النوم ، إن هذا الشراب حقق لها مبتغاها حين غاصت داخل نفسها وهي طفلة وعاشت تخيلاتها ومخاوفها وآمالها، مما منحها الوقود فيما بعد لكتابة ثلاثة الفتيان التي وعدت بكتابتها لأحفادها .. لكن أثناء ذلك كانت إيزابيل فاقدة الوعي بفم ابيض من الزبد لمدة يومين بين يدي ويلي، كانت روحها تغرغر على شفا الموت وهي في حياة أخرى منسية، لم تصدق ابداً أنها يمكن استرجاعها في يومٍ من الأيام .
مع قراءتي للكتاب توطدت صداقتي بالأحلام أكثر، حين كنتُ في الخامسة عشرة لم أكن أولي ذلك الجزء غير الحقيقي قي يومي أي إهتمام .. تصاعدت قراءاتي وأدركت أهمية قصور الأحلام التي أبنيها كل ليلة، خصوصاٍ بعد أن حللتُ مسألة فيزياية وأنا نائمة . كانت أختي تروي لي بعد صحوي بأني كنتُ أزعق وأؤشر بيدي على مستو ديكارتي في الفراغ وأصرخ : المحور السيني والصادي.. قلت لها ببرود وأنا اقضم ساندويشاً : بأني كنتُ أحلُ المسألة وأن الحلّ كان صحيحاٍ بشهادة الأستاذة.
نظرت أختي لي بعينين متوجستين .. وقالت : الكتب ستقودك للجنون إذا لم تتروي !
***
* من رواية وادي إبراهيم، صلاح القرشي
في رواية وادي إبراهيم كان المؤلف متمكناً من أدواته، خالقاً مبدعاً للشخصيات، ما كان مأخذاً عليه هو ما اسميه بـ "السرد المتعجل " وهو ما يلاحظ على النتاج المحلي العام، فـ كقارئة يصلُ إلي إحساس الراوي المتعجل اثناء القراءة وهو مالا أحبذه إطلاقاً، فلذة السرد المتمهلة المختمرة تصل لقارئها بلا شك يحين يمنح المؤلف الوقت الكافي لنضج حوادث قصته ويتمكن من سردها كما يجب وليس كمن تلاحقه شاحنة ! .. وأنا هنا حتماً لا أقصد الحشو والمط الصفحات الذي يقتل الرواية تماماً، ولكن ما قصدته هو النفس المتعجل، السرد السريع .. وذلك لا علاقة له بعدد الصفحات ، فالطيب صالح كتب أكثر الروايات العربية كمالاً :" موسم الهجرة إلى الشمال " في صفحاتٍ يقارب عددها صفحات " وادي إبراهيم، حيث لم يتجاوز كلاهما المئتين صفحة. ذلك فقط ماعاب الرواية الجميلة كما رأيت .
في الرواية أحببت وصف المؤلف لحال الفتى وماجرى له بعد السجن والترهيب، حاله قبل ذلك وحاله بعدها، وحين اقتربت النهاية فَصَّلَ المؤلف الأسباب في إقتدار وقد كان تفصيله ذاك جزئي المفضل من القصة والذي أعدت قراءته مرتين ... أما "علي بَو" الشخص العبيط في الرواية، والذي لاتكادُ تخلو نها اي رواية عربية . إنه الشخصية المشجب أو الشخصية المنقذة التي قد يعلق الروائي عليها أي فعل لا تقبله مجتمعاتنا، أو قد لا يفعل... لكن وجود هذه الشخصية مهم لتكتمل رؤية القارئ ، ففي الحقيقة لا بد من وجد شخص في كل مجتمع شرقي يفعل مالا يوافق هوى مجتمعه فيطلقون عليه القاباً مختلفة كـ " صَحِيِحْ، وعبيط، ومجنون، ومغزول* " .. علي بَو هو العبيط الذي كان نقطة ضعف الوالي الجبار، ويده التي قتلت الفيل الذي غير حال الفتى من بياضِ لسواد .
***
حدثت معركة صغيرة :
جلبة صفحات، وكعوب كتب تقرع الرف، وفاز بوشكين على كازانتزكي بروايته " زوربا " من ترجمة لخالد الجبيلي..
إذن : أقرأ الآن ابنة الضابط لـ ألكسندر بوشكين، وفي الليلة الأولى من القراءة حلمتُ بالثورة البلشفية ، وعمالٌ روس يحملون السلاح ويهزجون بالأناشيد بقوة، وكانت هناك فتاة بخدود محتقنة بالدم من أثر الجليد ، وكنت أسمع " آنا ترنوفا... آنا ترنوفا " !
كانت يدي اليوم فضولية للغاية ففتحتُ كتاباً جديداً اشتريته من المكتبة اليوم، والتهمت 50 صفحة من رواية " المغزول "لعبدالعزيز مشري .
كانت يدي اليوم فضولية للغاية ففتحتُ كتاباً جديداً اشتريته من المكتبة اليوم، والتهمت 50 صفحة من رواية " المغزول "لعبدالعزيز مشري .
* المغزول : المجنون بلهجة جنوب الجزيرة العربية
تعليقات
إرسال تعليق