التخطي إلى المحتوى الرئيسي

194




".... وصل بغا ذات ليلة ومعه ثلاثة كتب اشتراها تواً، أعارني واحداً منها لا على التعيين، كما كان يفعل أحياناً كثيرة ليساعدني على النوم. لكنه حقق في تلك المرة النقيض تماماً : ما نمتُ بعدها بالمتعة السابقة. الكتاب هو المسخ لفرانز كافكا،بترجمة بورخيس المزيفة، المنشور في دار لوسادا في بوينس آيرس، الذي رسم منذ السطر الأول طريقاً جديداً لحياتي. وهو اليوم إحدى التحف الأدب العالمي العظيمة : ( حين استيقظ غريغور سامسا ذات صباح بعد حلم مزعج، وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة مريعة . )
كانت كتباً غامضة، لم تكن مضائقها مختلفة وحسب، بل وفي كثير من الأحيان متناقضة مع كل ماعرفته حتى ذلك الوقت. لم يكن من الضروري البرهان على الأحداث: يكفي أن الكاتب كتبها لتكون حقيقية، دون أي برهان سوى قوته وسطوة صوته. ومن جديد كانت شهرزاد، لكن ليس في عالمها الألفي، حيث كل شيء ممكن، بل في عالمٍ لا يستعاض ضاع فيه كل شيء.
انتابتني بعد الإنتهاء من قراءة المسخ رغبة ملحة بالعيش في تلك الجنة الغريبة. باغتني اليوم الجديد وأنا وراء الآلة الكاتبة المحمولة، التي كان يعيرني إياها دومنينغو مانول بغا، لأحاول كتابة شيء يشبه بيروقراطي كافكا المسكين الذي تحول إلى خنفساء هائلة .لم أذهب في الأيام التالية إلى الجامعة خشية أن ينفك السحر، ونشر إدواردو ثالاميا بوردا على صفحاته زاوية تمزق القلب، يأسف فيها لأن جيل الكتاب الكولومبييين الجدد يخلو من أسماء تذكر، ولأنه لاشيء يلوح في الأفق يمكن أن يعدل ذلك. لا أدري بأي حق شعرتُ بأنني معنيٌ باسم جيلي بتحدي تلك الزاوية، وأخذت القصة المهجورة لأحاول رفع الضيم عنها. صغت فكرة حبكة الجثة الواعية في قصة المسخ، لكنني خفت من ألغازها الزائفة وأحكامها الأنطولوجية المسبقة. "


نعيشها لنرويها _ غابرييل غارثيا ماركيز 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...