التخطي إلى المحتوى الرئيسي

19

قال أحد الأصدفاء في تويتر :
 " أعلم بمقدار قلقلي من عدد دوواين الشعر المركونة بجانب السرير "

ظل كتاب حسن مطلك الأخير مركوناً بجانبي مع كتاب إيزابيل اللندي " حصيلة الأيام "، رغم فراغي من كتابه العين إلى الداخل. إلا أن قصائده المصفوفة في الربع الأخير من الكتاب ظلت متشبثة برأسي مثيرة رغبة القراءة الشعرية فيّ، كلما شرعتُ في القراءة ..
قرأت وقرأت وقرأت .. إلا ان مطلك كاتبٌ مستفز، يومياته محرضه وشعره السوريالي يحمل مخيلة مسكينة بديعة.. لازلتُ مبلبلة من قراءة مطلك، إن الكتابة عنه وفي يدي كتابٌ من آثاره يحوي أيامه وقصائده هو شي مُبَعّثِر، لا أكاد استجمع نفسي للكتابة عنه .
صفحاته بالكاد بلغت المائة والأربعين، تخللها خيال أخيه الكاتب المهاجر لأسبانيا محسن مطلك، وبوحٌ معذب، ونقدٌ رفيع مدروس، وقصص قصيرة، وأحاديث عن الفن والجمال وعالم الكتابة الذي أصبح السيف الذى هوى على رقبة حسن في عام 1990 من قبل النظام السابق إثر محاولة لقلب الحكم على صدام حسين والعالم الميت في العراق .

الإستفزاز هو الشعور المنطلق من كتابات حسن مطلك .. إنه يستفزك لتكتب، ولتضحك، ولتسخط، ولتبكي، ولتقرأ، ولتفكر، ولتدفن نفسك بين كتابك وتنعزل.

ولا زال كتابه مركوناً على خشب الكمودينو.

***

مخروط الحكاية ..


بدأتُ قبل يومين بقراءة حصيلة الأيام لإيزابيل ألليندي، الكتاب المهدى من مريم صديقتي.. تبدو كتابات إيزابيل في هذا الكتاب كإمرأة أجادت الحديث وقت شاي الضحى طوال عمرها... سردٌ متتابع رغم ان الفقرات الصغيرة لا يربطها أي شيء إلا أن الموضوعات تتشابك وتتحد لتكون حكايات صغيرة.. لتغدو فصول كتاب .. لتصير في الأخير كتاباً .
أعتقد أن كل إمرأة كاتبة تمتلك حكاءة في داخلها تنسج الحكايات داخل رأسها  كقطع صوفٍ ملونة بهيجة لا ترابط بينها سوى البهجة .
أعتقد أن الحكاءة بداخلي لا تزال متلعثمة وغير سلسة بالمرة، إن نفسها قصير وسردها مرتبك بعض الشيء .. جربت مرة حأن أحكي حكاية صغيرة لأطفالي بعد أن نسينا كتاب القصص في الحقيبة أثناء سفرنا . وكان إلحاح طلب الحكاية من قبلهم قاتلاً، فنهضت الحكاءة التي كانت تحاول سرد الحكاية عبر الورق إلى لساني وقصَّت قصتهما في المتجر تلك الليلة، إمتدت القصة بأن انحرف مسارها عن مسارها الحقيقي إلى آخر متخيل تراجيدي كوميدي .. فكان يلتفتان وتومض أعينهما في الظلام ليضحكا سوية على موقفهما السخيف فيما لو إمتلكا عائلةً غيري أنا و والداهما، أعجبتهما القصة وناما بعدها براحة .. فيما إطمأنيتُ أكثر إلى وجود شبح الحكاءة داخلي .

***

جدتي لأمي أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، إلا أنها حكاءة ممتازة وتملك نبرة صوت ساحرة .. كانت تحكي الحكايات وفي قلبي أمنية أن أصوغها كما تصوغها في أحد الأيام .. روت لي ذات مرة قصة عن أختها والتي تكون جدتي لأبي، تلك القصة كانت عجائبية وفاتنة كمذاق المكدوس السوري حيث لا يمكن أن تتخيل وجود أكلة لذيذة يمتزج فيها الجوز المفروم والفلفل الحارّ والباذنجان  !.. طلبت منها قبل أيام ان تحكيها لي بعد أن صرحت لها بفتنتي وعزمي على كتابتها كانت مستمتعة ومنتشية وهي تحكيها لإنني طلبتُ منها ذلك، فيما أنا أغرس صوتها وحكاياتها في عقلي لعلي أصوغها بشكل جيد في أحد الأيام .

أنهيتُ الأرباع الثلاثة من الكتاب، وفيه كانت إيزابيل تنكش في الرغبة بالإقتراب من عالمها الروائي أكثر فأكثر، كما قرأتُ عن كتابها إفروديت ، وهو كتابٌ عجيب أيضاً عن علاقات الحب والطعام.. فحتى تكتب الكتاب سافرت إيزابيل للهند والأمازون، ودارت في مراسلاتها الأبدية بينها وبين أمها أحاديث طويلة عن الوصفات وأسرارها.. إن كتابها هذا مثير، قامت دار ورد السورية بترجمته مما بحضُ على محاولة إقتناءه وقراءته فوراً _ متجاوزة ربما الترجمة السيئة _ ....
قرأت أيضاً بعد كتابتي لقصتي مع الأطفال والحكاية حكايتها الممتدة زمناً مع ولديها: باولا ونيكو وهما طفلين ،وعن أحفادها فيما تلا ذلك .. حين تخوض تحدياً بينها وبين مخيلة الصغار حتى تخترع قصة  من كلمة تقذفها ألسنتهم كنملة سوداء، حورية، عقرب .. وتجنح في إبهار الصغار بحكايتها البارعة جداً .
إيزابيل تكتب كإمرأة بطريقة محترفة جداً ، فكتاباتها لا يمكن تصنيفها كأدبٍ نسوي إنها أدبٌ عام بحسٍ نسوي وعاطفة متدفقة ومنظار وردي، يجعل القارئ الرجل لا يحتقر مطبخ المرأة، ولا هوسها بالكعوب الطويلة، ولا يستهجن شغف النساء بالركض وراء الشباب الدائم وحقن البوتوكس، ولا مزاجيتها المشروعة حين ينقلب مخها للثرثرة بطريقة أخرى  كسرد صامت على الورق، لينهض بحب وتشجيع يبني كوخاً لعزلة الكتابة، كما فعل زوج إيزابيل ويلي ذو العينين الزرقاوين .
الحديث سيمتد حول إيزابيل في يومياتي للقراءة ..


***

قوائم الكتب تشبه حقيبة المرأة، إنها فضائحية الإنسان حين يتعلق بالماديات : حقيبة، نمط سيارات، نوعية من الأقمشة ، قائمة كتب .
الكتب مرآة دقيقة لداخل الإنسان وعقله المختبئ خلف جمجمته، بإمكان القارئ أن يعرف الآخر مثله من أي الأنواع من خلال كتبه .. القائمة هي للقارئ حسن مطلك :


" بعض الكتب المقروءة في صيف 1983 :
  1. رولان بارت، درجة الصفر للكتابة
  2. أوسكار وايلد: صورة دوريان جراي/ رواية .
  3. ف. سكوت فيتزجيرالد : جاتسبي العظيم/ رواية
  4. علي زيعور : الفلسفات الهندية
  5. حنا مينه: الثلج يأتي من النافذة/ رواية.
  6. صنعة الرواية: ترجمة عبد الستار جواد .
  7. حنا مينه : الشراع والعاصفة/ رواية
  8. دستوفسكي: ذكريات من بيت الموتى/ رواية
  9. هيرمان هسه : ذئب البوادي / رواية
  10. جاك لندن : العقب الحديدية/ رواية
  11. مايتسن ( ترجمة : إحسان عباس ) : ت. س إليوت الشاعر الناقد .
  12. بلزاك : إمرأة في الثلاثين/ رواية
  13. عبد المجيد لطفي : فتحة أخرى للشمس/ رواية
  14. أنطوان ده سانت _ اكزوبري : أرض البشر / رواية
  15. ابن طفيل : حي بن يقظان  " *

* العين إلى الداخل : يوميات وقصائد حسن مطلك، مؤسسة الدوسري للنشر





تعليقات

  1. اقتنيت من معرض الكويت للكتاب أرض البشر ، من الممتع معرفة الكتب التي تغوي الكتّاب و قد قرأت قبل ذلك حديث ميللر الأثير الذي دونه في كتابه الصادر مؤخراً عن دار المدى " الكتب في حياتي " . مطلك رجل حزين في صباه كما كنا لا نعلم أما النهاية فلدى الجميع علم بها . مؤلم هذا الكم من الأشباح و الكوابيس التي كان عليه أن يصارعها بشكل يومي ، هذه الوحدة التي بلا شك كانت ستقضي عليه لو لم يسبقه النظام الديكتاتوري إلى ذلك . ايزابيل فتنة و لكنها في نظري أقل الكتاب اللاتينيين و يغضبني أن تحظى بكل هذه الترجمات في الوقت الذي لا نرى سوى القليل لبيندييتي و كارلوس فوينتس و غيرهم من عباقرة أمريكا اللاتينية. بخصوص الجدات فلن يغيب عن بالك التأثير الطاغي على ماركيز . في كتاب ضخم و عملاق و من أجمل ما قرأت في حياتي يدعى " قصة عن الحب و الظلام " لليهودي عاموس عوز كانت والدته التي انتحرت في أوج شبابها تبدأ بسرد قصة من خيالها ثم تتوقف ليكمل الطفل عاموس و من ثم تأخذ بناصية الحكاية و يتبادلان القيادة حتى يصلان إلى النهاية و في هذا تحفيز للمخيلة و طريقة عظيمة لصنع روائي . طبعاً الكتاب / السيرة شيء عظيم و لا يفوتني توصيتك عليه .

    شكراً لهذه الأحاديث و عذراً على الإطالة .

    ردحذف
  2. انا سعيدة بهذا التعليق الدسم، الزاخر ... أتمنى لو أرفقته بتدوينتي ليستفيد كُل متلصصٍ عليها، شكراً حقاً لك يا عبدالله.. شكراً كثيراً..
    لا أعلم من أين أبدأ ردي على تعليقك. فلنبدأ بتهنئتك على الوصول من أرض البشر، والتي كانت عناوين محصولك تشي بقارئ قديم... هل هناك قراءٌ جدد؟ وآخرون مخضرمون؟ وقدماء كمسنين ؟!

    نعم أثق بوجود هاته التصنيف للقرا،ء وقد تسمح لي أيامي بالكتابة عنها ذات موعدٍ جيد مع الفراغ ..
    شاهدتُ مرة لقاءاً مرئياً مع يوسف المحيميد، وبخصوصه كان يدور في فكري ذات تساؤلك الخاص بإيزابيل : لماذا هذا الإحتفاء والدعاية المبالغان فيهما؟! إنه كاتبٌ جيد لكنه أصغر من هالة الشهرة والإحتفاء هذه.. سَرَّب يوسف في ذلك الللقاء السر حين قال : من المهم أن يضع الكاتب نفسه في يد مدير أعمالٍ أجنبي بارع كما فعل ، فترجمت أعماله وحاز على دعوات عالمية لمحافل سردية ورشح لجوائز أيضاً .. وهو ما أظنه حصل مع إيزابيل : قليلٌ من الحظ، و وجود مديرة أعمالها المخلصة كارمن، وقلمٌ جيد ممتع .
    شكراً للتوصيات والحكايا المنثورة بين يدي كقطعٍ ثمينة مهداة،أما مطلك رجلٌ عبقريٌ و حساس .. قتله الزمن والحزن ذات يوم .
    ولا تنسى أن تُطيلَ الحديث دائماً :)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...