***
في مقدمة مجموعته القصصية : اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة، كتب ماركيز جملة حلوة ورائقة وتنطبق على من مارس الكتابة حتى غدت الكتابة نمطاً لا تكادُ الأيامُ تستقيمُ إلا به، قال : " كم هو إدمان الكتابة شره وحكاك " .. يمكنني فهم ذلك بقراءة بقية مقدمته وبعد ان أصبح نبضُ ساعدي قلقاً لا يحتملهُ يومي السريع والقصير.. كتب ماركيز هذه المجموعة أول مرة في بداية السبعينات بعد رأى نفسه تحضر جنازته ! كان يمشي بين رفاقه بملابس الحداد الوقورة بحماسة يصفها بالإحتفالية ! وكانوا سعداء بحفل الموت هذا .. وحين حانت ساعة الإنصراف، وانصرف الأصدقاء أدرك ماركيز أن الموت يعني عدم اللقاء مع الأصدقاء للأبد .
وبعد هذا الحلم قرر ماركيز الكتابة عن حياة اللاتينين في أوربا، بوحي من هذا الحلم كما فصل في مقدمته .. وعلى إمتداد سنتين كتب ملاحظات عن هذا الموضوع دون أن يمتلك قراراً يخصها، وحين تكدست تلك الإشارات والأفكار الصغيرة في دفترٍ من دفاتر ابنيه الصغيرين، أدرك بأنها لا تصلح لأن تكون مشروع رواية .. إنها أقرب إلى الحكايات القصيرة اللاتينية التي تحدث في المهجر .
نشر بمعونة الدفتر الصغير قصتين من هاته القصص في ملاحق صحفية متنوعة وحين جاء دور حكاية الجنازة، إكتشف ماركيز أن كتابة قصة موته يحمله طاقة من الإرهاق المستحيل فصد عن كتابة القصة للأبد .
الحزن القاتل يكمن في ضياع هذا الدفتر كما إكتشف ماركيز ذلك في عام 1978 وهو يتفقد طاولة مكتبه في مكسيكو سيتي، أصابته حمى فلم يصدق أن تراكم هذا الكم من الأفكار على مدى سنين يمكن ان يبتلعه المجهول بسهولة .. لم يبقٍ مكاناً في منزله لم يقلبه ويبحث عنه، يقول : أخضعنا الأصدقاء والخدم لتحقيقٍ قاسٍ.. وما من فائدة فالدفتر اختفى للأبد !
إن تلاشي أفكار ماركيز بهذا الشكل الفج جعلته يفكر بالأمر كقضية مصيرية، ففي محاولة قتالية منه لإجترار ثلاثين فكرة من مخازن الذاكرة نجح في تثبيت ثمانية عشر منها كتابياٍ مرة ثانية، وكانت إعادة الكتابة تلك تقوم بعمل المصفاة في طرح الأفار المترهلة أو التي وصل معها إلى طريقٍ مسدود .. بقيت هذه الشذرات القصصية قابلة للنمو فترة ممتدة من الزمن، كتب فيها ماركيز روايته قصة موت معلن، وعدداً من سيناريوهات الأفلام والحلقات التلفيزيونية ، وكانت الإضافات على القصص تلك تبدو مع الزمن كمشروع مستحيل وفاشل إلا أن جدية الكاتب ونضاله لدى ماركيز تبدى لي كأبلغ ما يكون في قصه في المقدمة .. انتهت الحكاية بماركيز بعد سنوات حين أعاد قراءة السطور المتراكمة لكل فكرة .. إكتشف أن تلك القصص عن المدن الأوربية البعيدة قد عفى عليها الزمن فلابد من إنعاشها بزيارة أوربا في جولة سريعة .. سافر ماركيز لأجل إكتمال مشروعه الكتابي، سافر لأجل أن يكتب !
كان ماركيزعبر رحلته تلك يطوف بشوراع روما وحانات باريس ومقاهي برشلونة لتُبعث القصص من جديد . إن مثابرة ماركيز لكتابة مجموعته جعلت نبض ساعدي يستحيل لدغدغة لطيفة، إن إعادة قراءة المقدمة من جديد كانت دوائي .. وفيه بُعثت ذكريات قراءتي مجدداً لمجلد القصص القصيرة الكاملة الماركيزية .
***
أعدتُ قراءة قصة إيرانديرا البريئة مرة ثانية في إحدى ليالي رمضان الفائت، قرأتها مرة أولى بترجمة _سأحرقها حتماً _ للحاج خليل.. كيف يقترفُ هذا الرجل جريمة كهذه ؟ لقد قرأتُها أول مرة بنعاس لا يفارقني.. ومرة ثانية وأنا أطهو الطعام وأقطع السلاطة بترجمة علماني .. كنتُ وقتها مأخوذة تماماً فلم تجد المجموعة لي من فكاك إلا حين عرفت بنهاية جدة إيرانديرا ودمها الأخضر المقدس، وحكاية حبها مع أوليسيس الذي يستحيل البرتقال بلمساته لثمرات ذهبية ... الآن أستطيع القول أني قرأت حكاية إيرانديرا البريئة وجدتها العجوز القاسية .
أريدُ أن أحكي بلا توقف عن ماركيز وقصصه إلا ان متعة قراءة ماركيز والكتابة عنه تورث سعادة مرهقة قد لا أستطيع الكتابة عنها مرة ثالثة الآن .. إن ساعدي ينبض وكأنه مطرقة في مزاد ثمين، إلا أنني سعيدة ومرتاحة.. ومانبضه هذا إلا رقصات دمي على صدى صوت طرقات لوحة المفاتيح .
***
كتبتُ قبلاً عن قراءتي الأولى لموراكامي عبر كافكا على الشاطئ ، حسناً جداً.... لكنَّي لم أكتب عن حالي وأنا أقرأها... كنت اقرأها بجنون والقطة السوداء المتحفزة على الغلاف تلعق عقلي تماماً ... أكون مسترخية على الأريكة تحت موجات التكييف وغطاءٌ ناعم يدثر رأسي كي لا يسرق الهواء متعتي، فأقفز ! أستوي جالسة حين قرأت ناكاتا وهو يحادث القطط .. ثم هوشينو تالياً، قفزتُ مراتٍ كثيرة وأنا أقرأ قصة جوني واكر وأكله لقلوب القطط، وموت ناكاتا الطويل والمستحيل، وحقيقة الفتى كرو حين أدركت كون وجوده على هيئة غراب !
أشياء كثيرة قفزت وهمهمتُ بلا معنى وانا أقرأها .. لكن نهاية قراءتي كانت متواطئة تماماً مع صانع الرواية : موراكامي العداء الخبيث .. حين أحسستُ وأنا أغلق الرواية بعد إنهائها بأن قوته الحكائية تجاوزت الزمان والمكان واللامعقول .. فوقتها كان أمامي تماماً وأنا أنتظر الخبز الساخن في السيارة : رجلٌ آسيوي مترهل يشبه ناكاتا يقزقز اللب ويرمي بقاياه لقطة حمراء هزيلة ،خلتُ أن روح القطة جوما _ التي خطفها جوني واكر _ احتلت جسدها في يومٍ من الأيام !
***
في محاولة متعمدة للبطء : أُنهي يوميات حسن مطلك .
***
كيف يمكنني إبتلاعُ دهشتي ؟
جاءني طردٌ محملٌ بالكتب فصمتُ يوماً كاملاً ... وكأن هذه المفاجأة لم تكن كافية ليمتلئ عقلي بالفراغ من فرط الحبور حين لمحتُ فاصلاً للكتب عليه إسم مدريد !
لا أجد كلاماً أقوله لمن اهداني هذه الهدية الثقيلة... سوى :
" ليرفع الرب قدرك في العالمين "
قراءة ما يكتب عن ماركيز وموراكامي منعش،
ردحذفكدهشة القراءة لهما.
+
هدية رائعة،
قراءة ممتعة : )
هيفا
شكراً يا هيفا لتعليقك المشجع حين قلت بأن دهشة قراءة التدوينة تشبه الدهشة التي يصنعانها ماركيز وموراكامي حين يكتبان ..
ردحذفشكراً والله منورة ♥ ♥ ♥