التخطي إلى المحتوى الرئيسي

18








عشتُ ثلاثة أيام كان ساعدي الأيمن ينبضُ يحيوية تفوق الرفرفة العادية لجفن العين، وطنبن الأذنين، والنبض العادي لصدغي حين أتوتر ... كان ساعدي ينبضُ كقلبٍ إضافي بنداءٍ أحسبه للكتابة، وأنا اكتبُ الآن هدأ ساعدي واستكان .. شخصتُ الداء وعرفتُ دوائي .

***

في مقدمة مجموعته القصصية : اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة، كتب ماركيز جملة حلوة ورائقة وتنطبق على من مارس الكتابة حتى غدت الكتابة نمطاً لا تكادُ الأيامُ تستقيمُ إلا به، قال : " كم هو إدمان الكتابة شره وحكاك " .. يمكنني فهم ذلك بقراءة بقية مقدمته وبعد ان أصبح نبضُ ساعدي قلقاً لا يحتملهُ يومي السريع والقصير.. كتب ماركيز هذه المجموعة  أول مرة في بداية السبعينات بعد رأى نفسه تحضر جنازته ! كان يمشي بين رفاقه بملابس الحداد الوقورة بحماسة يصفها بالإحتفالية ! وكانوا سعداء بحفل الموت هذا .. وحين حانت ساعة الإنصراف، وانصرف الأصدقاء أدرك ماركيز أن الموت يعني عدم اللقاء مع الأصدقاء للأبد .
وبعد هذا الحلم قرر ماركيز الكتابة عن حياة اللاتينين في أوربا، بوحي من هذا الحلم كما فصل في مقدمته .. وعلى إمتداد سنتين كتب ملاحظات عن هذا الموضوع دون أن يمتلك قراراً يخصها، وحين تكدست تلك الإشارات والأفكار الصغيرة  في دفترٍ من دفاتر ابنيه الصغيرين، أدرك بأنها لا تصلح لأن تكون مشروع رواية .. إنها أقرب إلى الحكايات القصيرة اللاتينية التي تحدث في المهجر .
نشر بمعونة الدفتر الصغير قصتين من هاته القصص في ملاحق صحفية متنوعة وحين جاء دور حكاية الجنازة، إكتشف ماركيز أن كتابة قصة موته يحمله طاقة من الإرهاق المستحيل فصد عن كتابة القصة للأبد .
الحزن القاتل يكمن في ضياع هذا الدفتر كما إكتشف ماركيز ذلك في عام 1978 وهو يتفقد طاولة مكتبه في مكسيكو سيتي، أصابته حمى فلم يصدق أن تراكم هذا الكم من الأفكار على مدى سنين يمكن ان يبتلعه المجهول بسهولة .. لم يبقٍ مكاناً في منزله لم يقلبه ويبحث عنه، يقول : أخضعنا الأصدقاء والخدم لتحقيقٍ قاسٍ.. وما من فائدة فالدفتر اختفى للأبد !
إن تلاشي أفكار ماركيز بهذا الشكل الفج جعلته يفكر بالأمر كقضية مصيرية، ففي محاولة قتالية منه لإجترار ثلاثين فكرة من مخازن الذاكرة نجح في تثبيت ثمانية عشر منها كتابياٍ مرة ثانية، وكانت إعادة الكتابة تلك تقوم بعمل المصفاة في طرح الأفار المترهلة أو التي وصل معها إلى طريقٍ مسدود .. بقيت هذه الشذرات القصصية  قابلة للنمو فترة ممتدة من الزمن، كتب فيها ماركيز روايته قصة موت معلن، وعدداً من سيناريوهات الأفلام والحلقات التلفيزيونية ، وكانت الإضافات على القصص تلك تبدو مع الزمن كمشروع مستحيل وفاشل إلا أن جدية الكاتب ونضاله لدى ماركيز تبدى لي كأبلغ ما يكون في قصه في المقدمة .. انتهت الحكاية بماركيز بعد سنوات حين أعاد قراءة السطور المتراكمة لكل فكرة .. إكتشف أن تلك القصص عن المدن الأوربية البعيدة قد عفى عليها الزمن فلابد من إنعاشها بزيارة أوربا في جولة سريعة .. سافر ماركيز لأجل إكتمال مشروعه الكتابي، سافر لأجل أن يكتب !
كان ماركيزعبر رحلته تلك  يطوف بشوراع روما وحانات باريس ومقاهي برشلونة لتُبعث القصص من جديد . إن مثابرة ماركيز لكتابة مجموعته جعلت نبض ساعدي يستحيل لدغدغة لطيفة، إن إعادة قراءة المقدمة من جديد كانت دوائي .. وفيه بُعثت ذكريات قراءتي مجدداً لمجلد القصص القصيرة الكاملة الماركيزية .

***

أعدتُ قراءة قصة  إيرانديرا البريئة مرة ثانية في إحدى ليالي رمضان الفائت، قرأتها مرة أولى بترجمة _سأحرقها حتماً _ للحاج خليل.. كيف يقترفُ هذا الرجل جريمة كهذه ؟ لقد قرأتُها أول مرة بنعاس لا يفارقني.. ومرة ثانية وأنا أطهو الطعام وأقطع السلاطة بترجمة علماني .. كنتُ وقتها مأخوذة تماماً فلم تجد المجموعة لي من فكاك إلا حين عرفت بنهاية جدة إيرانديرا  ودمها الأخضر المقدس، وحكاية حبها مع أوليسيس الذي يستحيل البرتقال بلمساته لثمرات ذهبية ... الآن أستطيع القول أني قرأت حكاية إيرانديرا البريئة وجدتها العجوز القاسية .
أريدُ أن أحكي بلا توقف عن ماركيز وقصصه إلا ان متعة قراءة ماركيز والكتابة عنه تورث سعادة مرهقة قد لا أستطيع الكتابة عنها مرة ثالثة الآن .. إن ساعدي ينبض وكأنه مطرقة في مزاد ثمين، إلا أنني سعيدة ومرتاحة.. ومانبضه هذا إلا رقصات دمي على صدى صوت طرقات لوحة المفاتيح .

***

كتبتُ قبلاً عن قراءتي الأولى لموراكامي عبر كافكا على الشاطئ ، حسناً جداً.... لكنَّي لم أكتب عن حالي وأنا أقرأها... كنت اقرأها بجنون والقطة السوداء المتحفزة على الغلاف تلعق عقلي تماماً ... أكون مسترخية على الأريكة تحت موجات التكييف وغطاءٌ ناعم يدثر رأسي كي لا يسرق الهواء متعتي، فأقفز ! أستوي جالسة حين قرأت ناكاتا وهو يحادث القطط .. ثم هوشينو تالياً، قفزتُ مراتٍ كثيرة وأنا أقرأ قصة جوني واكر وأكله لقلوب القطط، وموت ناكاتا الطويل والمستحيل، وحقيقة الفتى كرو حين أدركت كون وجوده على هيئة غراب !
أشياء كثيرة  قفزت وهمهمتُ بلا معنى وانا أقرأها .. لكن نهاية قراءتي كانت متواطئة تماماً مع صانع الرواية : موراكامي العداء الخبيث .. حين أحسستُ وأنا أغلق الرواية بعد إنهائها بأن قوته الحكائية تجاوزت الزمان والمكان واللامعقول .. فوقتها كان أمامي تماماً وأنا أنتظر الخبز الساخن في السيارة : رجلٌ آسيوي مترهل يشبه ناكاتا يقزقز اللب ويرمي بقاياه لقطة حمراء هزيلة ،خلتُ أن روح القطة جوما _ التي خطفها جوني واكر _ احتلت جسدها في يومٍ من الأيام !

***

في محاولة متعمدة للبطء : أُنهي يوميات حسن مطلك .

***

كيف يمكنني إبتلاعُ دهشتي ؟
جاءني طردٌ محملٌ بالكتب فصمتُ يوماً كاملاً ... وكأن هذه المفاجأة لم تكن كافية ليمتلئ عقلي بالفراغ من فرط الحبور حين لمحتُ فاصلاً للكتب عليه إسم مدريد !
لا أجد كلاماً أقوله لمن اهداني هذه الهدية الثقيلة... سوى :
" ليرفع الرب قدرك في العالمين "

تعليقات

  1. قراءة ما يكتب عن ماركيز وموراكامي منعش،
    كدهشة القراءة لهما.

    +

    هدية رائعة،
    قراءة ممتعة : )

    هيفا

    ردحذف
  2. شكراً يا هيفا لتعليقك المشجع حين قلت بأن دهشة قراءة التدوينة تشبه الدهشة التي يصنعانها ماركيز وموراكامي حين يكتبان ..
    شكراً والله منورة ♥ ♥ ♥

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...