التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن أحاديث الحمام


























" كلِ الأشياء يُمكن مطْ زمن فعلها  بالتأجيل إلا ثلاثة : الموت، العمل، والكتابة ! "



 هيفا  تنقرُ أصواتُ العصافير، والقطة، وجملة مانغويل * ذاكرتها . أنا : تدوينتها هذه : " رصاص العصافير "، وصوتُ الحمامات اللجوجات في المطبخ يجعلً ذاكرتي تسيلُ بالأحداث، والألوان، والروائح، وطعم قرص البرّ المدهون بزبد الغنم الذي تصنعه جدتي ..
لازالت رائحة قرص البرّ ذاك يحتفظ بعبقه في أنفي، حين تضع جدتي قدر الألمنيوم على الأرض وبجانبه صينية الأكواب وإبريق الحليب، كنتُ فتاةً كسولة أحبُ النوم لذا غالباً لا أظفرُ إلا بقرصٍ وحيد غطته أمي لي بورق الألمنيوم قبل أن تتناهشه الأيدي، أتناوله مع عددٍ كبير من حبات التمر من صحن تمر قهوة جدي  رحمه الله. يحصلُ أن أسبق الجميع  للإفطار اللذيذ إن نمتُ الليلة السابقة في السطح فيتكفلُ ضوء الشمس ولزوجة الذبابات اللاعقات لوجهي البارد بإيقاظي ،لا تفلح خيوط الشرشف الوردي الواهية في درأها عن وجهي، فأستيقظ لأجد خالي الذي يكبرني بأربعة أعوام أسفل السلم متعلقاً بأعمدته وهو يقول : ( أحسن، صحاك الذبان !).
كنتُ الحفيدة الأولى في بيتِ أخوالي، أصبحتُ انا وخالي الأصغر رفقة رغم ديكتاتورية تلك الرفقة وتسلطه علي !
كان يمنعنا من الضحك انا وأخي إن كُنا معه. مرة تشاجر مع احد أخوالي الكبار وابكاه، كُنا نظن أن البكاء سيعميه عنّا فضحكنا دون حد ودون كتم أصوات كركرتنا.. تحولت الكركرة لنشيجٍ مكتوم حين هرست ذراعي قرصةٌ هائلةٌ منه وهو يزعق : " لا تضحكين علي! " .
قد أظفرُ بقرصِ البرّ أو عصيدة التمر في الصباح إن نِمتُ في حجرتنا، تلك الحجرة التي كانت في الأساس مخزناً للمؤن، وإتخذناها نحنُ غرفة نوم في البيت الكبير ذي الغرف المحشورة بالبشر. في الحقيقة أنا لا أستطيعُ النوم فيها .. فالحنفية الصامتة وحوض الغسيل الجاف في الحجرة يتحولُ لغولٍ سمين في اليل الأسود، فلا أغمضُ عيني في الظلام خوفاً من إلتهامه لي إن نِمت.. وإن طلع الصبح وتسسللت خيوطُ الشمس إلى النافذة نمت. لكنّ الحمام الثرثار يبدأ يومه مع أول خيطٍ من النور، ليعلو هديلهُ الذي يلجُ رأسي على هيئة حديثٍ غامض في أحد أحلامي الكثيرة العامرة بالحمام الضخم والغيلان المخيفة .. وحين قرأتُ سيرة فرجينيا وولف وقرأتُ عن نوبات العصاب التي تصاب بها دوماً وتجعلها تسمع العصافير وهي تغني باليونانية، تذكرتُ أحاديث الحمام في أحلامي وابتسمت .. وقلتُ لنفسي : لم تحدث معي وحدي إذن !
الحمامُ لا يتركني أنام ...أنهض، وأتسللُ بهدوء من الغرفة .. أنزلُ الدرجات بصمت، أصلُ لجدتي التي تخبز البرّ في الفناء، وبجانبها خالي يلحسُ مثلوجةً بالتوت، يسألني كيف إستيقظتُ دون الذباب ، فأبلغه بسهادي، يقولُ لي وهو يلعق الآيسكريم الرائع : بنوديك شهار !
أسأله ماذا يعني شهار، يقولُ لي بانه مكانٌ للمخابيل اللذين فقدوا عقولهم وأنني سأفقدُ عقلي إن أتت الساعةُ العاشرة دون نوم، أغالبُ البكاء وأنا أردُ عليه بأنه كاذب، يضحكُ بتشفي ويقول : ستصبحين مجنونة بنوديك شهار !
 هذه الغرفة تعرفني.. أجزمُ أنها تعرفني حتى الآن ،ولو زرتُ هذا البيت الذي اتخذه أحد أخوالي منزلاً له لعرفتني، تضايقتُ كثيراً حين قام خالي بطلاء البيت بدهانٍ جديد. وذلك المخزن غدا مطبخاً أنيقاً قاموا برصف جدرانه بخزفٍ جميل، وارتصت الدواليب الخشبية على جسدها المربع، وهناك بجانب النافذة طاولة الطعام الخشبية .. كانت النافذة  العارية من الستائر حينذاك لاتجاورها طاولة طعام ماليزية فخمة لكنها كانت سعيدة بضحكنا في الليل ونقر الحمام والعصافير على زجاجها في النهار. والجدران  القديمة المرصوفةٍ ببلاطٍ حائل اللون من أثر القِدم ، كانت تحنو و تخافُ علينا  كخوف أمي وحنانها، وقد دللت على ذلك بأن انهدَ علينا جدارٌ من جدرانها ولمّ يُكسرْ رؤوسنا !  حدث ذلك في أحد نهارات الصيف الطويلة التي كُنا نُقطع طولها بالقيلولات الممتدة والإسترخاء أمام المكيف، مرةً تهاوى الجدار فوق رأسينا أنا وأخي فيما نغطُ في النوم! قامت أمي بإبلاغ أحد أخوالي بعد الحادثة فقام برصف قطع البلاط ذاتها التي لمّ تتكسر حين وقعت علينا، بمزيجٍ من الإسمنت المخلوط بالماء.. حاولتُ مرةَ بعد ذلك قلع البلاطات بأظافري حتى أدمت، فالقصة التي قرأتها عن العبد الصالح الذي قابله موسى عليه السلام فأصلح الجدار المتهالك قبل أن ينقض لوجود كنز،جعلتني أستنتج بأن خلف البلاطات المصفرة يختبيء كنزٌ ما !
لا ريبَ أن  الحجرة تتذكرني، تذكر إستلقائي على بطني لأقرأ مغامرات رجل المستحيل ود. رفعت إسماعيل ومجلدات ميكي التي سرقتها من مكتبة خالتي. حتى بابها يتذكرني .. بابها الذي يصِرُّ صريراً رفيعاً ليجعلني أدُسَ روايات نجيب محفوظ ،وعبد الحميد جودة السحار تحت الوسادة، إن فتحه أحد وكنت أقرأ أحد المشاهد الفاضحة لأبطال القصة .
تطرقُ تلك الحجرةُ _المخزن _ ذاكرتي الآن وأنا في المطبخ . في مطبخي الآن نافذةٌ واسعة، يتحدثُ الحمام البري معي حين أكون ساهرةً وأنا أغسلُ أواني اليوم المتراكمة في الصباح الباكر، أو قد أكونُ مستيقظة بعد نوم 3 ساعات من الليل فأُقومُ بتحضير إفطار وكوبِ شايٍ لي وأسمعُ هديلَ الحمام الطازج .
يتحدثُ الحمام، صوتهُ يبدو لي ثرثرة كاملة يطلقها سربٌ كامل، أخمنُ حديثهم ..كأن تقولَ واحدة مثلاً : " إنتبهوا للبيض الذي في العُش " أو " سأذهبُ لألتقط الحنطة " !  يتحدثُ الحمام فيختلطُ حديثه بالذكريات وقد تؤزك تلك الذكريات أزاً حتي تقوم بالكتابة عنها إن سَمِعَتَ الحمام، و قرأتَ تدوينة كتلك التي كتبتها هيفا !

* قال مانغويل : " “تتلاشى الهوية والمكان، فيما اتذكره أو ما أظن أني أتذكر، حالما أدير رأسي جانباً، ستصبح كلّها ذكرى وستتغير وفقاً لذلك” 

تعليقات

  1. الله يا فاطمة !
    يستغرب الكثير من أقاربي وصديقاتي من حنيني الكبير للماضي، وطفولتي، وأحاول بشتى الطرق توضيح ذلك.
    أشعر أنّ الحياة كانت ملونة أكثر، مزدحمة بالحكايات، ومدهشة، ليس لأنني كنت طفلة، بل لأنها كانت كذلك.
    مقدرتنا على التذكر والحنين نعمة كبيرة والله : )

    ردحذف
  2. ولماذا الإستغراب ؟
    أنا أستغربُ أكثر ممن يستغربون مني ومنك، ألا هذه الدرجة كانت الأشياء العادية بالنسبة لنا مملؤة بزخمٍ وهمي ؟
    لا أظن .. كُل الحكاية أننا لا نعطي أهمية للتفاصيل الدقيقة والضئيلة، مع أنها في الحقيقة هي التي نبني الإنسان الذي سيكون فيما بعد ..
    أتمنى فقط أن أكتب ذكرياتي بقليل من الجدية قبل أن تلتهمها حرائق الزمن، أملكُ الكثير جداً ..
    ولا تنسي أن تتمي حكاياتك الخاصة، فهي ساحرة بطريقة لا تقاوم ، وكما قلتِ نعمة كبيرة والله :)

    ردحذف
  3. ميكروفونك معك أينما كنت مع حلول النداء الشبكي
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/IP-Pagin-System?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=V-107

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...