التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جمجمة من شاش




















"" لا أدري كيف توصلت إلى أن أكون كاتباً بمثل هذه الذاكرة السيئة !  ""

تُنسب هذه المقولة إلى ماركيز على ذمة تويتر، لستُ أثقُ في تويتر ثقةً تامة إلا أني أثقُ في أن نصف السطر الذي تحتلهُ عبارته هذه الزاخرة بسخريةٍ حاذقة هي لماركيز، لا أحد يكتبُ بهذه الطريقة إنهُ يتحدثُ عن نفسه وكأنه يتحدثُ عن آخر .. بحياد ، بصدقٍ لا تحتمله أيُ أنا مغرورة، إنهُ كاتبٌ متواضع، وعجوزٌ جميل تمنحكُ قراءتهُ حساً جيداً تمكنك من معرفة ما كتب.
إذن أنت تقولُ أيها العجوز الكولومبي إن ذاكرتك سيئة ؟ هه يافتى أراكاتاكا ومزارع الموز وصاحب الرواية التي كتبتها ورميتَ بها لصندوق المهملات ؟.. كُلَ هذا الزخم من الذكريات ومن حكايا الجدات وأشباح بيتِ العائلة وتصفُ ذاكرتك بالسوء ؟ ماذا عنيّ إذن ؟ كُنتُ أفكرُ جدياً بنسفِ أحلامي التي ترتكز على كتابٍ ما سوفَ يُكتب قبل مقولتكِ هذه .. ماذا يُرجى من ذاكرةٍ لا أراها مُغطاةً  بعظام الجمجمة بلّ بلفائف شاشية بيضاء، ليسَ لها ثقل ، ملأى بالثقوب المربعة، لا يحملُ رأسي فيها أيُ مخزن للزمن ؟
الذكرياتُ تطير.. نعم بمعناها الحرفي للطيران، تطيرُ الصور والأحاديث ووجوه الأشخاص، تطيرُ الأصوات فيبتلعها الصمتُ والخواء .. تذوبُ الذكرياتُ في الهواء .. حتى تحمل رأساً جمجمته البيضاء ليست سوى شاش، وتمشي بهذه الرأس مزهواً بالخفة التي تسكنُ بين كتفيك، التي تمنحكُ خطواتٍ رشيقة وإلتفاتاتِ مارقة .. إلا أنكَ ستقعُ في حفرةِ إحباطٍ عميقة إنّ كانت إحدى أحلامك أن تكتبُ كتاباً .
قرأتُ أنّ طه حسين كان يذكرُ نفسهُ وهو طفلٌ صغيرٌ جداً ربما بعمرِ السنتين، وفي كتاب المخرج والكاتب السويدي انجمار بيرجمان " المصباح السحري " كانت رائحةُ  ذكرياته وهو طفل فائقة الطزاجة، ومليئة بالتفاصيل التي تدلُ على الذاكرة الرائعة.. لا أُنكر أنني لا زلتُ أحتفظُ بذكرياتٍ من هذا النوع، مثل صوت جدة أمي وهي تغني لي بعض الأناشيد وأمي تقولُ أنني كُنت بعمرِ الثلاثِ سنوات او اقل، والسرقة التي تعرضتُ لها في مرحلة الروضة مابرحت تحتفظُ بعبقها حتى الآن، والعمرُ وقتها كان مابين الرابعة والخامسة ..أحتفظ بشريطِ مسجل صوتاً وصورة لي و أخي الذي يليني في العمر، كُنت ُبعمر الثالثة وحين شاهدت الشريط _ بعدما عثرتُ عليه في بحثٍ فضولي لحقيبة أمي القديمة حين أوصتني أن احضر لها قلم كُحل من غرفتها_ كان هذا الشريط بمثابة دواءٍ سحري لتنشيط الذاكرة ، رغم ضبابية الصورة وأنا أتذكرُ ما حدث في الشريط وحوادث أخرى، مثل : بكائي حين أخذت مني حقيبة الكاميرا واعطيت لأخي حتى يلتفتَ لأوامر عمي المصور ليلتقط ملامح وجهه المكتنزة لرضيعٍ ذو 9 شهور، وفيما أنا المسكينة تكون صوري لامعة بسبب الدموع الكثيرة التي غطت وجنتي ومنحت عيناي نظرةً حزينة .. كنتُ حينها مابين سنتي الثانية والثالثة بالتأكيد .
تُعطيني مقولةُ ماركيز بعضَ الثقة في خلايايي الرمادية، فإن كان ماركيز كما يصفُ نفسه بذاكرةٍ ضعيفة، وكتبَ كُل ماكتب من رواياته وقصصه التي يكونُ فيها الوقودُ اللازم لكتابتها ذكرياتٍ كثيفة ..فلازال لدي الأمل.. لازالَ رغم ثقوب الشاش، والفضلُ لهذا العجوز الوسيم.

تعليقات

  1. تحدث ماركيز عن ذاكرته أكثر من مرة، في لقاءات معه، في سيرته الذاتية "عشت لأروي" والأخرى التي وضعها جيرالد مارتن .
    وكل مرة يسخر من ذاكرته أقف وأصفّق . . أنا مرعوبة حرفياً من تطاير ذاكرتي، بينما يحسدني البعض !

    ردحذف
  2. ... يبدو أنني بحاجة لإعادة قراءة أعيشُ لأروي، فكُلُ ما قرأته سابقاً تساقط عبر ثقوب جمجمتي !
    وحتماً سأكون من جمهور المصفقين !
    شكراً لهذا التعليق يا هيفا .

    ردحذف
  3. توفر شركة مدن الاتصالات العديد من الحلول التقنية لحماية تهديدات أمان الشبكة
    https://modn.com/ar/build-a-secure-and-reliable-network-for-your-business-why-and-how?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-101

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحر وكتاب وقمر

" لتبدأ الحياة كل يوم كما لوأنها بدأت للتو " غوته ( 1 ) الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر . ( 2 ) البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأق

هل ننجو من لعنة الفراعنة؟ إليكم ماحدث ..

مقولة مثل كل المقولات ! رماها أحدهم في الفضاء وتلقفتها الأفوه؛ لاكتها، عجنتها، تندرت بها، توجست منها، ثمّ: صدقتها . تلك هي حكاية لعنة الفراعنة باختصار ! منذ أن افتتح كارتر مقبرة توت غنع آمون وهناك من يؤمن بتلك اللعنة، وهناك من يضحك على من يؤمن بها … لعل ضحكه يدفع شراً ما، لكن الجميع يتفق على أنها ظاهرة غريبة ليس لها تفسير، أو قد تحمل تفسيراً أُوري في الخفاء كما يحدث مع ظاهرة موت لاعبي كرة القدم بالسكتات القلبية هذه الأيام :) ! لم يمت أحدٌ ممن اكتشفوا مقبرة (واح ـ تي) في نوفمبر  2018 ، وهو مسؤول كبير _ كاهن للسلالة الخامسة من أسرة الفراعنة _ ، حوت المقبرة عدة موميات لوالدة هذا الكاهن وأولاده وزوجته، إضافة لموميات لبوة وشبل أسد، حوت المقبرة قصة حياة " واح تي " وتاريخاً آخر لصراعٍ عاشه مع مواطن فرعوني آخر أراد أن يطمس حضوره بعد الموت واستولى على المقبرة عله يحظى بجنة (واح - تي) بعد الموت ! خلال ساعتان مركزة من السرد المرئي لاكتشاف غرفة  

ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة

  تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة!  تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟ بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة  بمثابة احتفال قرائي أختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، أسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي. مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل. في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة. فرانكشتاين في بغداد: اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد).  بدأت بها مساء يوم العيد بعد إرهاق التقبيل ا