التخطي إلى المحتوى الرئيسي

9

















لكلِ قراءة صوتٌ ما،  فالقارىء يحتفظ بأصواتٍ عديدة يدورُ لغطها داخل رأسه الصامت، تحكي الروايات، أو تصفُ منظراً ما، وقد تشرحُ لكَ أيها القارئ نظرية معقدة، او تحاولُ إفهامك قضيةً فلسفية عصيبة تدورُ رُحاها أيضاً في رأسك، وتطحنُ حجرتي الرحى خلايا مُخك الرمادية المسكينة وانتَ تقرأ .

***
أحتفظُ داخلَ رأسي بالعديدِ من الأصوات، لعلَ أقدمها صوتُ جدتي بارك اللهُ في سنينها وهي تقصُ علي " السباحين "(1) أثناء قراءتي لأساطير شعبية تأليف : عبد الكريم الجهيمان، أو صوتُ ممثلٌ مصري طفل" لا أذكرُ إسمه " يروي تفاصيل مغامرات تختخ ورفاقه المغامرين الخمسة، وصوتُ هيركل بوارو متضخماُ مُتقطع الحروف بسبب الغليون الذي لايفارقُ شفتيه بلغة إنجليزية تحملُ لكنة بريطانية فخمة سمعتها وأنا في المتوسط من أحد أفلام القناة الثانية .. وأصواتٌ كثيرة اختلطت وذابت مع الكتب التي قرأتها عبر ربع قرنٍ إلا قليلا .

***
قرأتُ ( الحارس في حقل الشوفان ) من تأليف ج . د . سالنجر بترجمة العراقي غالب هلسا .. إنني الآن أحاولُ التذكر ما إذا كانت هذه الرواية أولى روايات الأدب المريكي التي قرأتها .. اتذكر : ليست أولى الروايات، كانت قبلها رواية :( المواطن توم بين ) لهوارد فاست، هيَ إذن الرواية الثانية، لا زِلتُ أحبو في طريق قراءتي للأدب العالمي .. كلا : هي الثالثة، تذكرتُ آدجار الآن بو وقطه الأسود، وبمناسبة ذِكرُ بو قرأتُ الأسبوع الماضي عن فيلمٍ جديد في دورِ العرض بعنوان :  The Raven  ترتكز قصته على سيرة حياة الشاعر والقاص السوداوي ويقومُ فيه بدورِ محقق في إحدى جرائمه المروعة، والتي كان في الحقيقة يقومُ بدور الكاتب حين كتبها .

( الحارس في حقل الشوفان ) مقطعٌ من أغنية شهيرة كما جاء في الرواية :
.. إذا قابل إنسان آخر قادماً عبر حقل الشوفان (2)
حقلُ الشوفان هذا هو مُبتغى بطل الرواية هولدن كولفيلد الذي لمّ يبلغ بعد الثامنة عشرة، حيث تتكثف أماني هذا المراهق في حقلِ شوفان مملوء بالأطفال الصغار الذين لا يستطيعون فعل الزيف ولا محاولة الخداع، قلوبهم بيضاء لا تتمنى سوى اللعب والجري في الحقل، وهوَ_ أي هولدن _ حارسُ هذا الحقل  يقفُ اعلى الهضبة محاذراً من أن يصعد أحد الصغار وحارساً لهم .
الرواية هي سيرة حياة هذا الشاب خلال ثلاث أيام، والذي لا يفتأ من تكرار كلمة مُزيف في كُل صفحة من صفحات الرواية، هولدن غاضب ونقي للغاية لدرجة انّ نُعت بسبب ذلك بالجنون والبله من قبل الآخرين الكبار، هولدن جزء مختبئٌ في دواخلنا وكم مرة مارسنا ومورس عليه فعل القمع والإسكات، كم مرة تكورت الكلمات لتخرج دون مراعاة لقواعد الإتكيت المزيفة لترتد بعنف داخلنا، بحجة العيب والنقد والمجاملة .. كم نحن مزيفون بلاستيكون نُظهر خلاف مافي داخلنا .. كم مرة فعلتها وشعرتُ حقاً أني كنت مزيفة لمراتٍ لا عدد لها،شعرتُ بأحاسيس وجمل كنت تتكور في حلقي مرات كثيرة وأعجز عن قذفها فيتراكم الزيف فيَّ بشكل مؤذ .
هولدن لايرى سوى فيب أخته الصغيرة واخيه الأصغر منه والذي مات بسرطان الدم الصادقين في هذا العالم المزيف، ومعهم كُل الصغار .. هولدن تعب من هذا العالم فهو يشعرُ كما لوكان عجيزة حصان سباق(3)، هولدن يرى الناس يصفقون دائماً للأشياء التي لا قيمة لها(4) .

***
يقولُ المترجم في مقدمة الرواية بان الرواية كُتبت باللهجة العامية لأهل نيويورك ... مرة شاهدتُ فيلماً كان بطله فتى غاضب يتمتع بقوى خارقة وشريرة، لسانه بذيء على الدوام .. كان صوت هذا الفتى يدوي في رأسي وأنأ أقرأ حكاية كولفيلد .
أريدُ قراءة الرواية بلغتها الأصلية ..

***
يقولُ ماركيز بحكمة قارئ وكاتب عجوز :
” حتى تبلغ العشرين من عمرك تقرأ كل شيء وتحبه ببساطة لأنك تقرأ، ثمّ .. بين العشرين والثلاثين تقرأ كلّ الاعمال العظيمة. ثمّ تجلس وتنتظرها لتُكتب، لكنك ستعلم حينها أنّ أقلّ الكتّاب شهرة، هم الأفضل " .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سباحين : جمع سبحونة وهي سالفة او حكاية شعبية
(2) الرواية ص249
(3) الرواية ص 131
(4) الرواية ص129


تعليقات

  1. جميل أنني وجدتكِ هنا مع يومياتك يا سوسنة

    جين آير

    ردحذف
  2. الأجمل هو حضورك يا جين والله ..
    لكِ كُل التحايا

    ردحذف
  3. توفر شركة مدن الاتصالات العديد من الحلول التقنية لحماية تهديدات أمان الشبكة
    https://modn.com/ar/build-a-secure-and-reliable-network-for-your-business-why-and-how?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-101

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...