التخطي إلى المحتوى الرئيسي

10



تعلمون حتماً عنّ نوعية الكُتب التي تشعرُ بعد قراءتها وكأنك لمّ تقرأها أصلاً، بلّ كأنك تُشاهدُ فيلماً سينمائياً محبوكاً .. من نوعية الأفلام التي لا تشعرُ بكمية السحر الذي قذفته في وجدانك وحواسك إلا بعد أنّ ترى كلمة النهاية فتقوم لا شعورياً بمد أطرافك المتيبسة من جراء الجلوس الطويل بهيئة واحدة تُشبه التماثيل، لتسمع طرقعة مزعجة لعظامك تحاولَ أنّ تصم أذنيك عنها حتى لا يزولَ أيُ أثرِ سمعي أو بصري للفيلم .
الكتاب هو : " العمى " والكاتب هو : " خوسيه ساراماغو " البرتغالي ... إنها المرة الأولى التي أطرقُ فيها كُتب هذا البرتغالي العجوز، كُنتُ قبل قراءته أعلمُ بان اسمه تسبقه كلمة مدينة العمى أو العميان لدى القراء اللذين أعرفهم، حتى بات مرادفاً لروايته تلك، أجزمُ أنها قد تكونُ رواية حياته.. أي أنها الكتاب الذي تتفرع منه جميعُ كتبه وإليه أصلها، ففي عُرف الكتابة دائماً يقال بأن الكاتب يكتبُ رواية واحدة وما غيرها يكونُ صدىً لها ، لدي ذلك الإحساس الملح بأن هذه الرواية هي رواية ساراماغو ولنّ أعبأ إن كان هذا الإحساسُ خاطئاً، فالأثر الذي رسمتهُ الرواية في صفحة عقلي يجعلني مقنعة تماماً بهذه النظرية رغم ضبابية فروضها ومقوماتها .. هي عمياء كما الرواية ، بيضاء بلون الحليب ومشوشة كما يرى عميان تلك المدينة .

***

الكتاب بطاقة هوية ضخمة جداً للإنسان الكاتب ولكن وبحكم أني ابنة هذا القرن اللاهث الحديدي أختصرُ مؤلفي ما أقرأ في ضغطة زر تقودني إلى ويكيبيديا ... هه لحظة ... هُناك شيءٌ مضحك حين كتبتُ أربعة أحرف الأولى من كنية ساراماغو، ظهر في النتيجة الأولى الكاتب ذاته، يليه كلمة سيراميك هههه .. في حلقي تتجمع قهقة ساخرة ! كمّ نحن بعيدون جداً عما نطمح للوصولِ إليه بجانب الدول المتقدمة القارئة، نريدُ أنّ نقفز من طوابير البلاد النامية .. إلا أني أظنُ هذا يحتاجُ قرناً أو نصف قرنٍ إضافي ما دُمنا  نبحثُ عن ساراماغو بنفسِ عددِ مراتِ بحثنا لكلمة سيراميك !

***
كُتبت الرواية بلا أسماء، نعم لمّ يكن هناك أسماء في هذه الرواية .. كان هناك وصفٌ فقط : الطبيب، زوجة الطبيب، الأعمى الأول ، الطفل، الفتاة الجميلة، الصيدلي ..كلُ الأشخاص في هذه الرواية متساوون لا توجد أفضيلةق ما كُل الناس في تلك المدينة عميان ولا تفضيل إلا لمبصرٍ وحيد وهو زوجة الطبيب الذي اكتشف هذا المرض .
مالذي يُريدُ ساراماغو من هذه الرواية ؟ لماذا كتبها؟ هل هي محضُ روايةٍ تخييلية جامحة في سموات الخيال الخلاقة والسرد المتماسك الناضج أو أنه ككلُ كاتبٍ حقيقي يُضمنُ كُلَ حرف إشارةً ما ويرمزُ إلى رأي وفكرة وعبر الرواية يفندُ نظريته وأراءه ؟
قطعاً إنّ ساراماغو كاتبٌ يمشي وفي يديه يحملُ مشعلاً يضعهُ في كُتبه ليضيء طرق الآخرين بما يكتب .. ساراماغو كاتب خلاق لا يكتبُ لأجل الكتابةِ فقط .. نعودُ لويكيبيديا التي وصفت ساراماغو بكاتب أمثولات والأمثولة هي  في الأدب هو ضرب الأُمْثُولَة وهي ضرب من الصياغة الرمزية للأفكار الفلسفية، تعتمد كإجراء فلسفي لتوضيح فكرة أو الإقناع بموقف بعد الكشف عن إحراجاته وأهم تداعياته. ولذلك فهي لا تتحدد بمعنى القصة الفعلية المهمة في تواتر الأحداث، بل تتحدد كبناء رمزي تكمن قيمته في ما يوحي به من تساؤلات وما ينبه إليه من مقاصد.

***
في عدد مجلة الدوحة لشهر إبريل  ترجمةٌ لفصل من أول رواية كتبها وهي بعنوان الطاقة ... كتبها وهو في الثلاثين من عمره قدمها لإحدى دور النشر والتي لمّ ترد عليه أبداً ..... وفي في عام 1989 اتصلت به الدار واخبرته بأنهم عثروا على مخطوط الرواية اثناء الإنتقال وعرضت عليه نشرها إلا ان ساراماغو رفض،والآن أرملته ومترجمة كتبه إلى الأسبانية: بيلا ديل ريو  تنشرها واصفة إياها : " بالرواية المفتاح لأدب ساراماغو " .

***

،، غريب كيف تسطيعُ الذاكرة خداعنا ،،


جوزية ساراماغو _ رواية العمى




_ هذه اليومية كُتبت بعد قراءةٍ واحدة  لرواية العمى ،
وهي غير مُنصفة أبداً ..
 وحتى تصل القراءة القادمةُ عنها لحدود 
الإنصاف يجب أنّ تُقرأ  مرةً ثانية على الأقل  ..


تعليقات

  1. الله يا فاطمة قراءة جميلة
    وهذه الرواية عظيمة أؤكد أنها من أروع وأفضل ما قرأت
    فكرتها التي توحي بالعبثية فلا زمان ولا مكان ولا أسماء محددة هي في صميمها عميقة كل العمق
    دمتي بود

    ردحذف
  2. أهلاً بكِ سيدتي ..
    نعم العبثية هذه الفكرة ترددت علي كثيراص وانا أقرا الرواية ..
    سعيدة بتعليقك .. دام قلبك الأبيض

    ردحذف
  3. التحديات التى تواجه الشركات عند تأسيس شبكة وكيفية التغلب عليها
    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/network-challenges-for-businesses-and-how-to-overcome

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...