كُنتُ قد قرأتُ عن احتفال الصحافة والأدب بمئويتك يا أستاذي منذ السادس من ديسمبر . حينها تصاعدت الذكرياتُ أمامي كدخانٍ كثيف.. أول كتابٍ اقتنيته لك .. حكاياتك وسنيني التي كانت تقرأها بشغف ، صحيحٌ أنّ ذاك الشغف أتى بسطحية تناسب فتاة الخامسة عشرة التي قفزت من سلاسل مغامرات تختخ ومجموعته من المغامرينُ الصغار، تلتها قفزاتٌ صغيرة نسبياُ مع رجل المستحيل وأغاثا كريستي ، إلى ما تلاها من قفزات إلى أدبك وأدباء جيلك أمثال محمود جودة السحار ، ومحمد عبد الحليم عبد الله ، ويوسف السباعي .. تلك القفزات كانت ممُتعة، ولكنها كالراقص فوق الجليد..الذي لمّ يدلف بعد لجوف البحيرة، ولمّ يتعلم الغوص العميق، وتجربة تتابع الأنفاس في سباقٍ محموم، و لمّ يُراهن ولا مرة على أنّ ينهي رحلة غوصه عميقاً دون أن يفقد نفسه ،ودونّ أنّ ينقطع ... فظلت أغوار البحيرة غامضة ومجهولة بالنسبة له .
أعتقدُ أن قصة اقتنائي لكتبك أول مرة ستبدو بذات أهميتها إليك ، لأنك كما قرأتُ في حوارك المنشورِ تواً مع الأستاذ محمد سلماوي تفهمُ نوعية تلك القفزات التي تُحَرف اتجاه قراءاتك ومن ثمّ اتجاهك في حياةٍ بأكملها . أنتَ كانت قفزتك كما قرأتُ في الحوار مع المنفلوطي وعبراته وماجدلوين ، أنا كُنتُ أقفز برفقتك ، معك .. مع الشيطان يعظ،، مع اللص والكلاب، مع الكرنك، ومع ثرثرتك فوق النيل، كانت قفزة مهولة حقاً.. لكنها مُتشابهة مع قفزاتي السابقة بحكم قراءتي لمحمود سالم ود. نبيل فاروق في البداية ..كُنت قبل لعبة القفز تلك في مصر ،ومعكَ لمّ أُغادرها بل ّ غُصت _ والتشبيهُ حرفياً _ في عالم الحارة المصرية .
أذكُرُ ذلك الرف الذي يحوي كتبك وآخرين ، رفٌ مملوء ومُغري ، الأغلفة في تلك الكتب تناديني في مكتبة الملاهي .. هل تعلمّ : الفتيات في ذاك الوقت كُنّ يذهبن إليها لركوب الشلال ، وتناول الآيسكريم وأعواد الذرة والثرثرة بلا نهاية ..أنا كنتُ أذهب لغير ذلك، ففور وصولي هناك ..أخلع عباءتي وأُعلقُ حقيبتي المصنوعة من النايلون على كتفي بحرص. أتفقدُ وجود مُدخراتي من مصروف المدرسة ، والنقود الإضافية التي منحني إياها أبي لأجل رحلة نهاية الأسبوع أو عُطلة منتصف العام.. وانطلق نحو سوقٍ من زجاج يحوي ركناً يُسمى مكتبة.
أعتقدُ أن أول رواية قرأتها هي اللص والكلاب أو مجموعة قصصية.. في الحقيقة لستُ أذكر تفاصيل تلك القراءة بدقة..فقد مضى الآن ما يقارب الثلاثة عشر عاماُ على تلك القراءة. أتدري: ما لذي علق بالذاكرة من ذاك الوقت حتى هذه اللحظة التي أحاول كتابة رسالة إليك ؟ الانبهار ! .. نعم الإنبهار يتبعه شعورٌ يُشبه العطش الشديد لكتاب آخرٍ لك .. ماذا أفعل ؟ ليس أمامي سوى الانتظار أسبوعاً آخر لعل عطلتنا الأسبوعية تكون هُناك... في الملاهي !
أنا مدينة لك بالكثير، مدينةٌ لمكتبة الملاهي الغارقة في البساطة، التي منحتني صدفة قراءة رواياتك وقصصك.. بعد زمن و بشكلٍ مُباغت : أكتشف أنّ تكدس الكتب التي تحت السرير صار مروعاُ، وبتُ أبحث ُعن حلٍ حقيقي لها، ولأني لا زلتْ طالبة الثانوية التي تتحرج من إرهاق أبيها بشراء مكتبة، كان وضع كتب الجيب البوليسية داخل صندوق حلاُ يقيني حرارة ذلك الإحراج ،لترتاح كُتبك قريباً مني ،هناك....تحت سريري.
أكبرُ ولا تزالُ ترافقني ، أصبحُ فجأة في الجامعة ،وبأول مكافآتي الجامعية اشتري مكتبة.. وكانت رواياتك في الرف الثالث لوحدها، أُسمي هذا الرف: رف نجيب محفوظ.
تجربة قراءتك ثرية ولا زالت مستمرة، كانت قراءاتي لك سابقاً أكبر من أن تستوعبها تلك الصغيرة، لكنّها بالغةُ الأثرفيّ .. أذكرُ حين قرأتُ ميرامار، قرأتها أولّ مرة في الجامعة ،حسناً... تلك الطفلة كبُرت قليلاً. المرة الأولى تلتها أربع مرات، وفي كُل مرة كمصباحٍ سحري تُبدي تلك الرواية وجهاً جديداُ.
بنسيون ميرامار و قصة زهرة مع سُكان البنسيون .. في القراءة الأولى كان عقلي يختزل داخل تجاويفه صراع السكان الذكور على زهرة الريفية الطيبة اليانعة كـ إسمها ، بكيتُ حين أنهيتها وعامر وجدي يقرأ سورة الرحمن . هل تعلم لماذا بكيت ؟ لأني أحسست أنني عامر وجدي الصامت الضعيف ، الذي يخبئ في قلبه أكثر مما تتحمله خفقاته ، لأنه يُحب سورة الرحمن وأنا أُحبها وأحفظها ، ولا زال القلم الذي تلقيته مكافأة من المدرسة على حفظي لها حياً بلونه البني المحمر وأطرافه المذهبة ، و وعاء تعبئة الحبر البلاستيكي فارغ بسبب عدم إتقاني لسكب الحبرِ في قناني صغيرة، ودوماً أدفع الثمن إن حاولتُ ذلك: ببقع حبر لزجة، وكراساتٍ مُشوهة !
في القراءات التالية لـ " ميرامار " بدأت ُ أفهمُ رمزية الحكاية ، عرفتُ من هي زهرة السمراء ويوسف طلبة وعامر وجدي وسرحان البحيري .. كنت تحكي الثورة وما بعدها وما قبلها، كُنتَ تحكي عنّ شعب مصر المُمزق بين أحزابها الكثيرة، كنتَ تحكي مصر التي تركتهم وصعدت وحدها بنموها وإزهارها حين قررت تعلم القراءة والكتابة.. كنت تقولُ انّ : مُستقبل الأمم بقدر العلوم التي تتقنها، بقدر نجابة تلاميذها وإخلاص مُدرسيها.. فهمت ذلك وأنا أقرأ للمرة الرابعة .
وفي عيدك التسعين أشاهدك وأنا أبكي ، وأقرأ ما كتبه صديقك وتلميذك جمال الغيطاني في مجلة العربي عدد ديسمبر عام 2002 ..
أحتفظ بتلك المجلة حتى هذه اللحظة، أعتبرها ألبوماً خاصٍ بك.. بها صورتك وأنت تضحك، وأنت تحكي للأستاذ جمال، وأنت تكتبُ بيدك العليلة.. غلاف تلك المجلة بورتريه مصور لك ، أحب صورتك فيها كثيراً .من حديث جمال الغيطاني عن رفيقه وأستاذه نجيب محفوظ في آخر أيامه :
" كنت أنتظره كل ثلاثاء أمام البيت لنذهب سيرا على الأقدام إلى مقهى في ميدان التحرير ، إصغائي إليه ، اقترابي من أذنه اليسرى التي مازالت حاسة السمع فيها قوية بمساعدة السماعة ، لحظات صمته ، شرود نظراته ، سعيه في الطريق السادسة صباحاً بجوار النيل الذي أحبه ،وأقام في عوامة فيه بعد زواجه لمدة سنة ، ثم سكن على مقربة منه ،محفوظ النيل ونيل محفوظ !ما لم أعرفه عنه في صباه في بيت القاضي: شجر دقن الباشا ، خناقات الفتوات،حب الحسين، لعبه في قبو قرمز، الثورة عام 1919 م ،الثلاثينيات، العصر الذهبي للقاهرة، الحرب العالمية الثانية..... مقهى زقاق المدق، وزارة الأوقاف، فترة العمل في قبة الغوري ، الثورة .
نجيب محفوظ، إنه عصر بأكمله من تاريخ مصر مختزل في إنسان، عاش المجتمع المصري عبر عنه طيلة سبعين عاما من الكتابة المتصلة وهذه حالة فريدة في تاريخ الأدب والأدباء. " _ مجلة العربي
يجب أنّ أُخبرك قبل إنهاء الرسالة يا عمو نجيب أنني قرأتُ آخر أعمالك: أحلام فترة نقاهة.. أحلامك وأنتَ تتنقه بعد محاولة الاغتيال .. وهي خلاف ما أعتدنا عليه من محفوظ في القصة والرواية ، فقد كتبت تلك الأحلام على هيئة نصوص قصيرة مركزة ، قريبة إلى القلب وبذات تسلسلك وجزالتك في كتبك السابقة .وربما كانت ظروف كتابتك المستحيلة لها هي التي جعلت تلك المخيلة النادرة التي تمتلكها تتمخض مخاضاً عسيراً ليولد لنا عملك المنفرد من بين أبنائك.
أتت تلك الأحلام بعدد 206 حُلم ، في طبعة من إصدار دار الشروق المصرية ، وقد أعتبرت تجاوز الأحلام التي كتبت سنين عمرك التسعين فألاً حسناً ، لتقهقه مع صحبك فَرِحاً بهذا الفأل ، كما ذكر ذلك صديقك جمال الغيطاني في إحدى مقالاته ، لكنّ هل كان عدد تلك الأحلام إشارة إلى وقت وفاتك عام 2006 ؟ ربما ..
بعدَ أنّ مُتّ وقعت تلك الثورة التي ظلت قصصك وحكاياتك تتنبأ بوقوعها ، وقعت ثورة 25 يناير .. وقتها هرعتُ إلى روايتك التي تتعاطى مع الثورة وجيل ما بعد الثورة: " الكرنك "، وقرأتها مرة ثانية.
الآن أنا أحتفل بمئويتك على طريقتي، أقرأ الثلاثية الأشهر التي ظلت تجربة القراءة معك بسبب عدم قراءتها قبلاً مشوهة وغير تامة.. لستُ أدري لمّ أخرتُ تلك التجربة حتى الآن ؟ هلّ كُنتُ أدّخر متعة ما معك .. أدخرها حتى أكبروأصيرُ عجوزاً لها شعرٌ أبيض؟ لكنّي لمّ أنتظر إبيضاض الشعر ولا عدسات القراءة السميكة .. فقد قرأتها الآن والكتًب تتزاحم علي، مصفوفة في مكتبتين.. تنتظر دورها في القراءة .
وتبقى أنت يا عمو نجيب سيدها الذي تحتلُ رفاً بأكمله لا يجاريكَ في نلك المنزلة على الرفوف وفي حجرات قلبي أحد ..وسأظل أقرأُ لك حتى الموت.
10 ديسمبر 2011
كل ما تحتاج معرفته عن تأسيس كول سنتر-Call center
ردحذفhttps://modn.com/ar/all-what-you-need-to-know-about-settingup-a-call-center?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=V-103