التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ألوان الخوف



" بأقدام مثقلة إنهاكًا وتعبًا، دخلتُ إلى المطبخ الرمادي، رفعتُ أكمامي البيضاء، ( دلقت ) الصابون في زبدية عميقة، أفتح الصنبور، أمكث لحظات حتى يسخن الماء الجاري بقوة، ليصطدم بالصابون الأحمر الممزوج برائحة الفراولة، فيغدو سائلاً يشبه الدم، تقززت حينما جال بخاطري أن أصابعي تتمرغ في دمٍ صافٍ أحمر.

أدرتُ الصنبور في وجل، توقَّفَ اندفاع الماء، جففت يديّ بوضعهما على قميص الجامعة، درت نصف دورة حتى أُرخي جسدي، وتتهالك قدماي، معلنة عدم قدرتها على الوقوف، أُسند ظهري على دولاب (المجلى)، أُغمض عينيّ، صوَر عديدة تدور بين تلافيف مخِّي، ألتقط منها صورة محاضرة الفيزياء اليوم، صورة طفلٍ جميلٍ أشقر، تلفازٌ مظلم صامت.

أبتر تتابع الذكرى القريبة، أتمتم.... ألعن الفيزياء في سرِّي، لا بد أنها لوثتْ عقلي هذه الظهيرة؛ لكن أطباق الصيني ما زالت لزجة، بقايا المكرونة الرطبة يغري بغسيلها.

أثب ! ... أرفع أكمامي ( المعفطة ) المعروقة، تتصاعد رائحة الصابون مع الرغوة البيضاء في الحوض، أبدأ بغسل الأطباق بالماء، ألمح حركة خاطفة سريعة أمام بصري، ترفُّ عيني اليسرى لمشاهدتها، ألمح جسمًا كلون العسل، لامعًا، برَّاقًا، الشَّعر يخرج منه، ويجعله يمشي عليه كوسادة.

- لااااع!! صرصار.

أفرُّ إلى خارج المطبخ، أجلس القرفصاء ملاصقة لجدار البهو، أنفاسي تلهث، دموعي تتساقط، زوايا المطبخ تنكمش، تتلاشى، تصبح تلفازًا يضج بأصوات القنابل، بالصياح، بالدم.

قوة مغناطيسية تجذبني، تشدُّني إلى هناك، أخترق زجاجه دونما أَلَم، الألم هنا خلفها، نارٌ حقيقيَّةٌ هنا، تتأجج، صبي أشقر يساري، أسمعه يتشهد، يعدو، دبابتهم الخبيثة تلحق خطواته الصغيرة، أرعبتني دبابتهم كصرصارٍ مليء بالشَّعْر المقزز؛ لكنه حقير لدرجة أنني يمكن سحقه بنعل، لكني جبانة كما نحن دومًا، أقف صامتة وهم يطلقون النار عليه، يواجههم بالحصى، وبنظرة عزة مخيفة، بينما أنا خرساء، أصابوه، تفجر الدم منه، وأنا ما زلت جامدة متخاذلة، لم أصرخ، لم أمزقْ حتى نجمتهم السداسية الزرقاء، لم أحل دون قتل الصبي الجميل.

كنتُ وما زلت تمثالاً شمعيًّا يقطر سلبية وذِلَّة، بكيت كثيرًا بقوة، دموعي خِلْتُها دمًا أسودَ، جدار البهو يقترب ليخنق أنفاسي، لينتقم للصبي الأشقر، أنفاسي تطير، تهرب بعيدًا، من واقعي الأخضر العفن.

في المساء أبوها الكهْل مستنداً على عصاه يناديها، يمنِّي نفسه بقهوة حلوة مُرة، يحب لونها الداكن، يمشي بمهل.... يُذعر، يرى جسدها ممدَّدًا والزبد حول فمها، وأنفها يسيل بدمٍ أحمر، مُخلفًا وراءه جلطة سوداء مكان القلب. "

انتهت

تعليقات

  1. قصة جميلة
    تحياتي
    قارئة

    ردحذف
  2. أفضل 3 شهادات لتكنولوجيا الاتصالات وأنظمة الشبكات
    https://modn.com/ar/top-3-IT-certificates-that-are-in-a-high-demand-in-2022?utm_source=biz-vb&utm_medium=organic&utm_id=H-102

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...