داي سيجي ، مخرجٌ سينمائي فرنسي من أصلٍ صيني ، ألفّ روايتين :الأولى ما قرأته وقد حازت على جائزة غونكور، والثانية اسماها بعقدة داي وصفها النقاد بأنها نوع من عقدة " أوديب " وحازت على جائزة فيمينا...غادر داي سيجي الصين إلى فرنسامنذ حوالي عشرين عاماً .. غدا مواطناً فرنسياً، وقد كتب روايته هذه بعد إخراج عددٍ من الأفلام الطويلة .
ماالذي دفعني لإلتقاط هذه الرواية من رفوف المركز الثقافي العربي للنشر في معرض العاصمة ما قبل الأخير؟غلافُ الكتاب أبيضٌ مصفر ،تتوسطه صورةٌ لفتاة مرسومة بالفحم ، الفتاة بسيطة قُسم شعر مقدمتها من النصف وسرح على شكل ضفيرة ناعمة طويلة إتكأت على كتفها النحيل ، عيناها الصغيرتان المسحوبتان إلى الخلف ، وأنفها المكور الصغير الذي يماثل حجمه حجم شفتيها المضمومتين برقة ، ملامحها تلك توحي أنها من شعوب شرق آسيا .ألتقط الكتاب ، أقلبه وأقرأ ما كتب في الخلف :" داي سيجي .. فرنسي من أصلٍ صيني "لمُ أقرأ ولا مرة للآسيوين ، خلاف العرب طبعاً ، أقرر أخذه ..ألتقطه وأضعه مع مجموعة الكتب المصفوفة بشكلٍ عمودي أمام البائع .. أدفع الثمن وأودع كتبي الثقيلة البائع السوري على أن أعود لأخذها في نهاية جولتي في دهاليز المعرض اللذيذ .أحب شراء الكتب بلإعتماد على ذائقتي الخاصة ، دون التقيد بتوصية صديق أو غيره ، لمّ تخذلني ذائقتي ..الرواية رائعة جعلتني أغوص في تجربة مغايرة عمّا أعتدت قراءته ، تدور أحداث الرواية في المجتمع الصيني الشيوعي إبان حكم ماوتسي تونغ خلال نهاية عام 68 م ، حول شابين صينيين عوقبا بترحيلهما إلى إحدى القرى الجبلية لإن أحدهما ابن طبيب اسنان وهو ليو ، والآخر ابن طبيب عام وهو الراوي الذي ظل دون اسم ، فقط صفة : " الراوي "حتى نهاية الرواية .في رحلة النضال والمنفى الإجباري يتعرفان على منفي آخر ابنٌ لشاعرين ، لم يُطلق عليه اسم بل احتفظ طوال رحلة الرواية بلقب :" صاحب النظارة الأنفية ".نُفي الصبية موزعين على جسد جبلٍ شاهق ...فَ ليو ورفيقه الرواي يقطنون قرية على قمة الجبل ، فيما قطن " صاحب النظارة الأنفية " قريةً تقع على خاصرة جبل فينيق السماء .تطأ أقدام الراوي ورفيقه ليو تلك القرية ، يستقبلهم حشود القرويين وعلى رأسهم زعيم القرية ..شيخٌ في الخمسين ، متحفز النظرات ، كارهٌ لهولاء الأولاد القادمين من المدينة العاهرة ، يرمقهم بعينه اليسرى المخيفة ذات الثلاث نقاط من الدم ،ويُنبش متاعهم بعنف ، يقبضُ على ساعة مُنبهة على شكل ديك ، يقومُ بهزها بإضطراب يبادره الولدان بإرتباكٍ وتملق بالقول بأن هذه هديةٌ للزعيم ، حهازٌ يقوم بإيقاظهم وتنبيههم ساعة النوم وساعة إنتهاء الأعمال، ينظرُ إليها بتقديس ، ويكمل تقليب بقية المتاع .يعثُرُ على كمان ٍ وسط المتاع ، يملكهُ الراوي .. عند هذه النقطة تقعُ محاورةٌ طريفة بين الأولاد وبين الزعيم تكشف مدى الإنغلاق وكره المعرفة لكل ماهو غير مُنتمي للمجتمع الصيني وتحديداً الأمبراطور ماوتسي :
" رفع الكمنجة إلى مستوى عينيه وهزها بإهتياج ، كما لو كان يتوقع سقوط شيء من قاع العلبة الصوتية الأسود .أعتقدتُ أن الأوتار ستنقطع مُباشرة ، وان الزخارف سوف تتطاير مهشمة .كانت القرية كلها حاضرة تقريباً ، أسفل هذا البيت المرفوع على أوتاد والضائع على قمة الجبل . رجال ونساء واطفال يتزاحمون في الداخل ، يتمسكون بالنوافذ ، يتدافعون أمام الباب . ولأن شيئاً لم يتساقط من آلتي فقد أدنى الشيخ أنفه من الثقب الأسود، واستنشق إستنشاقاً عميقاً حتى لاحت شعيرات كثيرة وغليظة ، طويلة ووسخة ، تخرج من منخره الأيسر وبدأت ترتعش .وما من قرائن جديدة دائماً .مرر أصابعة الخشنة على وتر ، ثم على آخر .. أدى إنبثاق رنين مجهول إلى إصابة الحشد بذهولٍ مفاجئ ، وكأن ذلك الصوت أجبر كل واحد على التحلي ببعض الإحترام ._ إنها لعبة ، أعلن الشيخ بنبرة إحتفالية ._ لعبة مغفلين قالت إمرأة ذات صوتٍ أجش ._ كلا ، صحح لها الشيخ ، إنها لعبة برجوازية ، متأتية من المدينة .تملكني البرد على الرغم من النار القوية التي تتوسط الغرفة . سمعت الشيخ يضيف :_ يجب حرقها !فوراً أثار هذا الأمر ردة فعل قوية لدى الجمهور. بدأ الجمهور يتكلمون ويصيحون ويتدافعون : كان كل واحد يحاول الإستيلاء على اللعبة كي يتمتع بإلقائها في النار شخصياً ._ أيها الشيخ إنها آلة موسيقية . قاال ليو بنبرة مرحة ، اؤكد لك أن صديقي عازفٌ ماهر .استعاد الشيخ الكمنجة وتفحصها من جديد. ثم ناولني إياها :_ آسف ، قلت لهُ منزعجاً ، أنا لا أعزفُ جيداً .فجأة رأيت ليو يغمزني . استغربت ذلك وتناولت الكمنجة وبدات أدوزن الأوتار .سوف تستمتعون إلى سوناتا لموزار ، أيها الشيخ ، اعلن ليو من دون التخلي عن هدوئه السابق .أُصبت بالذهول وظننت أن ليو قد جنَّ ،منذ بضعة أعوام منعت كل أعمال موزار ، وكل اعمال الموسيقيين الغربيين، في بلادنا . تجمدت قدماي المبتلتان داخل حذائي المبلل . عدت إلى الإرتجاف من البرد الذي تملكني من جديد ._ ومامعنى سوناتا . سأله الشيخ حذراً ._ لا أدري ، أجبته متلعثماً ، شيء غربي ._ أغنية ؟_ تقريباً. أجبتهُ متهرباً .وعلى الفور لاحت في عيني الشيخ يقظة الشيوعي الصالح ، وخالطت صوته نبرة عدائية !_ وماهو اسم أغنيتك ؟_ إنها تشبه أغنية لكنها سوناتا ._ سألتك عن اسمها ! صاح وهو يحدق في عيني مُباشرة .ومن جديد تملكني الخوف من قطرات الدم الثلاث في عينه اليسرى ._ موزار ... قلت متردداً ._ موزار ماذا ؟_ موزار يفكر في الرئيس ماو . تابع ليو بدلاً منّي .يالها من جرأة ! لكنها كانت ناجعة : فقد لانت ملامح الشيخ المهددة كأنه استمع إلى ما يشبه المعجزة وانطبقت جفونه مع إبتسامة عريضة تنضح بالغبطة ._موزار يفكر في ماو دائماً ، قال ._ نعم دائماً ، أكد ليو .
ما ان داعبتُ أوتار القوس حتى دوى تصفيق حار ومفاجئ، جعلني أشعر بالخوف تقريباً . "
عاشا وسط ذلك البيت ، أعلى القرية .. يدندنان على ألحان الكمان ، ويدخنان بقايا السجائروسط البرد والظلام ، يتحدثان ويحسبان ما بقي لهما ويُعتقان من هذا المنفى .. وفي الصباح يحملان خراء الأبقار والخنازير فوق ظهريهما ، او يعملان كمنجمين عن الفحم وسط الجبل . الرواي كما عرفنا عازفٌ ماهر ،أما ليو فأكتشفا فيه مهارة الراوية الرائع.
كان حكواتياً ساحراً ، أَسَرَ الزعيم بقدرته على التمثيل والحكاية ، روى له كل الروايات التي رآها وقرأها .. ملّ الزعيم من الحكايات المكررة ، وأعطاهما إجازة يزوران فيها سينما المدينة أسفل الجبل ، ومن ثم يرويان الفيلم للزعيم ولباقي المتعطشين من أهل القرية لحكايا الفتيات الحزينات والعشق النبيل .
كان صديقهما " ذو النظارة الأنفية "ملاذاً إحتياطياً قريباً ، فكانا يزورانه ويساعدانه في ري حقول الأرز ، مرة طرقا بابه وكان ليو محموماً من جراء الملاريا .. طرقاه بشدة ثم انفتح ، كان صاحب النظارة مشغولاً بواجبات الري في الخارج ..أراح الرواي رفيقه على السرير وبحث له عن غطاء .. عثر في بحثه على حقيبة من الجلد ، ثقيلة و مُقفلة .. تحسسها وصاح بليو :
حسناً لقد وجدتُ كُتباً !
تعرفا إلى الخياط العجوز وابنته الخياطة الصغيرة الجميلة ذات الجديلة الحريرية والحذاء الوردي الباهت .. إنها بلا شك أجمل فتيات مقاطعة ينغ جنغ .روى لها ليو كُل الحكايات ، وحتى حكايات بلزاك التي حصلا عليها من صاحب النظارة بالمساومة .. يقترب ليو ، شيئاً فشيئاً بسحر الحكايا ، بسحر الحب ، باللهفة للأنثى وسط برد الجبل .. غديا معشوقان ، والرواي يرمق قصة العشق هذه وفي قلبه ينمو حبٌ صامت ، قد يكون اعظم وأكثر إخلاصاً من حُب ليو العابث .
صاحب النظارة الأنفية و أمه الشاعرة التي تحكيك الصوف فيما تحيك في رأسها الأشعار مختبئة عن جواسيس الأمبراطورية ...هذا الفتى مغرورٌ ومتعنت ، وصعب المساومة ..بناءاً على ذلك ولإن فترة نفيه إنتهت ، قرر ليو ورفيقه سرقة الكُتب في مغامرة لاهثة ومجنونة تماماً !
مشهدالسرقة هذه من أجمل المشاهد التي قرأتها ، هو من المشاهد التي لا يُمكنني نسيانها ، لإني عشتها في فترة من الفترات ، جربتُ متعة سرقة الكتب وَ عشت مع ليو ورفيقه لذة الحصول على الكتاب ولو بالسرقة مرة أخرى .مررت بها من قبل، لم أملك في ذلك الوقت كتاباً ولا نقوداً .. بيت الجد يقذف فيّ الطفش .. خالتي متعنتة جداً وتظن أني لا زلت طفلة فأقفلت غرفتها بما تحتويه من كتب ، غافلتها سرقت 10 كتب ! ذهبنا إلى بيتنا في العاصمة التي تبعد عن مدينة أخوالي 80 كم ومعي ال 10 كتب ، بلذة لنّ أنساها أبداً .. لذة الحصول على الممنوع و تحقيق الرغبة .
مشهد السرقة أعاد لي تلك الذكريات ،عايشت الخوف من أن يفقدوا الكتب بكل صدق وواقعية ، يقول ُ الراوي لحظتها: " اقتربنا من الحقيبة.. كانت مربوطة بحبل غليظ مضفور من القش . حررناها من قيدها وفتحناها بصمت، فأضيئت في داخلها ، كومة كتب بضوء مصباحنا اليدوي . واستقبلنا الكتاب الغربيون بأحضانٍ مفتوحة : في مقدمتهم صديقنا القديم بالزاك ، في خمس روايات أو ست ، يليه فكتور هوجو ،ستاندال ، دوما ، فلوبير ، بودلير ،رومان رولان ، روسو ، تولستوي ، غوغول ، دستويفسكي ، وبعض الإنجليز : ديكنز ، كبلنغ ،إيملي برونتي .. "
داي سيجي المخرج اتضحت لمساته في الرواية ، حيث استخدم تقنية الفلاش باك في السرد ببراعة ، كما كانت بعض الألفاظ السينمائية دارجة في أكثر من موضع ، وتعدد الرواة في ومضة سردية سينمائية تُعطي النتلقي رؤية أشمل للقصة ـ فمابين رفيق ليو والخياطة ووالدهاوالطحان القذر ـ كان دور الراوي متبادلا.أما النهاية كانت مُتقنة وصادقة إلى حدٍ مُدهش في الرواية وكذلك في الفيلم عنها ، والذي قام بإخراجه بنفسه .. حيث كانت في الفيلم على هيئة فيضان طال كُل شيء في القرية في رمزية تشير إلى فيضان المعرفة الغربي على المجتمع الصيني ، أما في الرواية كانت النهاية على نحوٍ ما حزينة .. لنّ أتطرق إليها لأترك متعتها للقارئ، فقط أقولُ أنّ الترجمة الإحترافية التي نُقلت إلينا بواسطة التونسي محمد اليوسفي جعلنّني أعيشها حقاً مع الخياطة المعشوقة وليو والراوي العاشقان .
هذه الرواية تصف تعاطي الصيني العائش في المجتمع الشيوعي المنغلق مع الآخر الغربي ، متمثلاً في التفاعل بين الخياطة وبالزاك ( رواياته ).. الدهشة التي عاشتها مع كل قصة وفي كل صفحة ، تعلقها بكل مسلمات الحياة في الرواية .. لدرجة إحتفاظها بسترة الصوف المُزينة بكلماتٍ من الحبر المأخوذة من فصلٍ بإحدى رواياته ، فكيف غدت بعد بالزاك ؟.. كيف أمكن للغرب أن ينتشل الشرق المتأطر في إطار التخلف والديكتاتورية ؟..
يقولُ ليو في ص72 :
" هذا العجوز بالزاك ساحرٌ حقيقي وضع يده اللامرئية على رأس هذه الفتاة، فخضعت لتحول ما ، ولبثت حالمة ، واستغرق منها ذلك وقتاً قبل أن تعود إلى ذاتها وتضع قدميها على الأرض مجدداً. وانتهى بها الأمر إلى إرتداء سترتك _ يقصد الراوي _التي واتتها على أية حال ، وقالت لي إن ملامسة جسدها لكلمات بالزاك قد تكسبها السعادة والذكاء " .
أفضل 3 شهادات لتكنولوجيا الاتصالات وأنظمة الشبكات
ردحذفhttps://modn.com/ar/top-3-IT-certificates-that-are-in-a-high-demand-in-2022?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=H-102