التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صورة

لا زال بذات الشارب الناعم الخفيف ، والوجه المستدير، الأسمر، المُشرَبْ بـحمرة .. ولا زال بتلك العينين السوداوين البالغتي الحنوْ ، و بـ إبتسامته الأبدية التي رسمت ملامحها على الشفاة الرقيقة ..

هوَ : بذاتِ ( الشماغ ) ، وذاتِ العِقَال الرخو ، وذات الطيبة التي رُسمتْ تفاصيلها بشمولٍ على الوجه المستدير .

هوَ : كما هوَ ! لمّ يتغير يتغير أبداً .. ما عدا ذلك اللون الثلجي الذي تصبغت بها شعيرات اللحية الخفيفة والشارب المرهف ..

لمّ يُغيرك سواه ! ... لمّ يغيرك سوى تمازج ودوران ألوان الطيوف جميعها : الأحمر والبرتقالي ، والأصفر والأخضر ، والأزرق ، والنيلي والبنفسجي .

لمّ يُغيرك سواه .. لونُ النور : اللون الأبيض .

ــــــــ

_ أعددتِ الشاي يا ابنتي ؟

_ نعم يا أبي .


ــــــــ

... أدُسُ الصورة بين أصابعي وانا أناوله الشاي بيدي الأخرى .. أهربْ ، أفُرْ ، بحجة غسلْ الأطباق .

.. أعود لتأملها.. أيُ حيرة ؟ .. بل أيُ أفكارٍ قذفت بها هذهِ الصورةُ في فؤادي ؟؟

..اسئلها : من انا ؟!!

هل لازلتُ تلك الفتاة الصغيرة التي تباهي بقدومكَ عند باب المدرسة ؟؟

أم تلك الأخرى التي تودعُكَ على أبواب الثانوية ؟؟!

.. حيثُ الطيش، والصخبُ اللذيذ ، والحياةُ بألوانها كُلها ، كُنت حينها أعيشُ يومي بكل تفاصيله ، ولا أفكر في الغد بل أكتفي بأن تتكفل المفاجآت بصنعه لي .. لمّ ندخر حينها ضحكة لأيامٍ تشُح فيها البسمة ، وتختفي فيها البشاشة حين ينوء العُمْر بحمل المسئوليات الثقيلة.

أم لعليّ تلك التي تُرافقكَ كُلّ يومٍ في مشوارٍ صباحيٍ طويل، حيثُ تَغُص الرياض بِزُحامها ، وأصواتِ ضجيجها .. حيثُ نلوذّ يا " أبي " بسماعِ المذياع ، ونصدحُ مع " فيروز " ، وأخبارِ الصباح .

ما الذي يحدُثُ ذاك الصباح ؟ .. لا شيء !! سوى الحديثِ والثرثرة عن آخرِ قرارات مجلس الأمن ، ومجلس الشورى ، وحقولُ النفطِ في المكسيك !!

... ما الذي يحدثُ ( لي ) ذاكَ الصباح وأنا أسمع لِ " الستْ فيروز " ؟؟

حينها أسهو وأغفو ، وأطيرُ بأحلامٍ فتية أبحثُ عنّ رَجُلٍ وهمي ، لا أنتَ هوَ ولا أخوتي يا أبي .. آخرٌ مُختلف يَلمُ شعث أحاسيسي المتناقضة الشاردة ، ويُكْمّلُ نقصي ، أُخبرهُ عن آخر دواوين محمود درويش ، وأتساءل معه عنّ سر جريمة " سعيد مُهران " في اللص والكلاب لِ محفوظ ..

ثمّ يُفاجئني ذلك الرجل ذات ليلة بِ مستطيلٍ ملفوفٍ بعناية بورقٍ عاجيٍ فاخر ، ووردة حمراء و.. يهرب ! ليجعلني أُمزقُ لهفتي والورق، وأنبش بحبورٍ صفحات الكُتب التسعة ، وسطور البطاقة المُعطرة .

توقظني يا " أبي " وأنتَ تَدُسُ في يدي المصروفَ وتودعني ، وحين أقف في رحابِ الجامعة لتناولِ قهوتي السوداء و ( كروسوان ) الجبنة الصفراء ، أُصِرُ وأنا أبتسم أن أدفع ثمنها من ريالاتك ، لا من مكافأتي الجامعية ..

.. وفي وسطِ البياضِ الوقورِ لملامحك ، الذي خلّدتها يدُ المُصَور وجعلتها بين أصابعي ، وأعادت ليْ شيئاً من الذكريات الصغيرة الهاربة ، تساءلتْ : من أنا الآن ؟!!

ــــــــ

يقتحمني أخي ، يتساءل :

_ ماذا تُخبئين في يدك ؟

أهُزُ كَتِفيّ _ وتنثني الصورة بين بُنصري الأيسر وخاتمي الألماسي الرقيق _ وأنا أجيب :

_ لا شيء ... مجردُ صورة !!


انتهت

تعليقات

  1. تسلم اناملك
    تدوينة رائعة جداااا

    ردحذف
  2. مرحبا..
    نص رائع جداً..تدفّق بانسيابيّة فكان ناصعاً وابداعيّاً
    ..فعلا ماكان من اللسان فمصيره النسيان..اما ماكن من القلب فهو يتغلغل بالوجدان!!

    سلمتي فاطمه

    ردحذف
  3. أم راشد + أبو سالم :
    الله يسلمكم من كل شر .. شكراً للتشجيع * ــــ *

    ردحذف
  4. أنواع أنظمة السنترالات PBX وفائدتها للأنشطة التجارية في عام 2022

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إنني لا أقرأ يا أمي

إنني لا أقرأ يا أمي، لم اعد أملك القدرة على فتح كتاب، غدا مخي يرسم خيالاتٍ حامضة في كل صفحة أقلبها.. توقفت عن الأخوة كارامازوف بعد أن ضقتُ ذرعاً بحديث الأب زوسيما الرتيب المنخفض، وعيون ألكسي المتسعة في إستنكارٍ صامت. ونقاشات الأخ إيفان و والسيد ميوسوف. أردتُ قراءة أهالي دبلن، ولم أقدر سوى على ثلاث قصص تحديداً .. مليئة برائحة السعوط والكهنة، مزاج جويس مخيف وقاتم لكنه حقيقي تماماً لدرجة ان رائحة موت الكاهن العفنة تسللت لأنفي وأنا أقرأ قصة "الأخوات" ، ورأيتُ بعينيّ ظلام سوق آرابي وهو يقفل مطفأً انواره في القصة الكاملة " سوق آرابي ". إنني لا أقرأ يا أمي، ونفسي بلونِ الكُحل، وجسدي واهن وضعيف كورقة مثقوبة، ولا أحد يتحمل شكاية بلا حجم سوى قلبك الممتد حباً، أعلمُ أن ما أكتبه وما كتبته قد لاتقرأه عيناكِ يا أمي، لكن ربما هذا السبب الذي يجعلني أكتب لك، لإن أحدثك دون أملأ قلبكِ بحزني ، وقلقلي ، ونزقي، ومزاجيتي ، وأحلامي، وثرثرتي.. حاولتُ مرة أن أحتويك وأن ألصقَ صدركِ بصدري حين بكيتي في المرات القليلة التي رأيتكِ تبكين فيه، حاولتُ إحتضانك، وإذ بكفيك المكورتين كقبضة لينة ت...

بحر وكتاب وقمر

" لتبدأ الحياة كل يوم كما لوأنها بدأت للتو " غوته ( 1 ) الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر . ( 2 ) البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأق...

ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة

  تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة!  تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟ بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة  بمثابة احتفال قرائي أختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، أسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي. مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل. في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة. فرانكشتاين في بغداد: اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد).  بدأت بها مساء يوم العيد ...