التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بحر وكتاب وقمر





" لتبدأ الحياة كل يوم
كما لوأنها بدأت للتو "

غوته
( 1 )

الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر .

( 2 )


البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأقرأ الفهرس وأول الكتاب كطقوس لازمة لي عند الشراء .
كان عبد الله الجعيثن من الكتاب اللذين هوست بهم في بداياتي ، اقتنيت أغلب مؤلفاته ولم أندم ، قرأت له " جرح حمامة بيضاء " ،" فن الإستمتاع بالحياة " ،" مشكلات عاطفية " ، " بنت وحديقة وقمر" .. الجعيثن كاتبٌ مهم لكنّه مغبون من الإعلام ، تميزت كُتبه المقالية بالنقد الإجتماعي لسلوكيات المجتمع السيئة ، حلوله الواقعية الفعالة كان يطرحها بكل بساطة في مقالاته ،لمّ تخل مقالاته من حسٍ ادبي وميلٍ لذكر الأدب والأدباء ، أرى أنّه يمتلك ثقافة شعبية جميلة تكلم عنها في مقالاته .
من أكثر الكُتب التي أحببتها : كتاب "بنت وحديقة وقمر "
بدءاً من العنوان الذي شدني إلى مقالاته المنوعة ، تكلم في هذا الكتاب عن غلاء المهور والأدب وأساليب التعامل مع الآخرين ، هو يقدم لقرائه في كل كتاب وجبة كوكتيل خفيفة لكنّ مشبعة وشهية ، اول ما تعرفت على كافكا كان عبر هذا الكتاب الذي أورد قصة عجيبة عنه :

" لقد ظللت سنين طويلة أتألم في مرارة كلما تذكرت كيف أن ذلك الرجل الجبار الذي هو أبي والذي هو بعد الله الملجأ الأخير لي يخرجني وأنا طفل من السرير بل مبرر وأثناء الليل ليتركني وحيداً في الشرفة مُدللاً على تفاهتي وضآلة شأني ...

الأديب الألماني

فرانز كافكا

من رسالة حقيقية لأبيه

بقيت كُتب الجعيثن حاضرة في الذاكرة ، بكل تفاصيلها حتى أغلفة الكتب لمّ أنسها ، وخصوصاً هذا الكتاب بغلافه البرتقالي المميز ... على فكرة عبدالله الجعيثن لا يزال كاتباً مقالياً في جريدة الرياض السعودية (الصفحة الثقافية ) .

( 3 )




وثبت الذكريات في ذهني في الإجازة الفائتة لإن غلاف الكتاب المسافر معي كان لهُ ذات اللون البرتقالي المبهج ارتبط الكتابان في عقلي وحين أردت أن أكتب عن ( ليلى العثمان ) قفز بكل تلقائية عنوان الكتاب البرتقالي " بنت وحديقة وقمر " فكان مُلهمي في عنوان هذا الموضوع وفي مقدمته .
هل جربتم التوحد مع الكتاب ؟؟ أي أن تكون أنت والكتاب كياناً واحداً تغوص في صفحاته وتغدو إحدى شخوصه الحبرية ، تستطعم طعم الألم واللذة والبرد والقرّ وتكون كل حواسك بين يدي الكاتب وكتابه الحاضر بين يديك ..

في العام الفائت على شط البحر وبحضور نور القمر تآمر كتاب الكويتية : "ليلى العثمان : ( حالة حب مجنونة _قصص) ليصنعا لي ألذ قراءة وأجمل الذكريات ..

المصافحة الأولى كانت مع هذه المجموعة ، قصص قصيرة حاكتها الكاتبة بذكاء وألمٍ جلي ، لتُخرج لنا ثوباً جميلاً رغم قتامته . تلتقط اللحظة لتصنع منها قصة ، والهدف منها يبدو غامضاُ في البداية لكن لا تلبث القصة في النهاية أن تُحل عقدتها بذكاء وتذوب في العقل كحلوى السُكر .







ليلى العثمان أديبة وقاصة وصحفية كويتية ، صدر لها العديد من القصص والروايات تُرجم لها مجموعات وقصص قصيرة إلى اللغات الروسية الألمانية البولندية والتركية والإنجليزية لها جائزة أدبية بإسم جائزة ليلى العثمان الأدبية ..

للإستزادة هذا رابط صفحتها على الويكيبيديا :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86
الذي شد إنتباهي في كتابات ليلى العثمان _ حين قرأت لها المزيد فيما بعد _ بساطتها .. بساطة الحكاية التي تحكيها وتطعمها بمفرداتٍ كويتية ..هي تحكي هم المرأة الخليجية والكويتية خاصة ، حكت عن هم الفتاة والضغوط التي تطوقها ،حكت عن الحب المكتوم الذي يدور بين الأروقة والحواري ويعيش فيها ولا يلبث ان ينفجر ليطير بالحبيبين عن مجتمع معقد او ينفجر ويفرق بينهما بقسوة كما حدث في روايتها " وسمية تخرج من البحر " .. لفت إنتباهي شيئان في كتاباتها :

* حديثها المتكرر عن هم الزوجة الأجنبية في الخليج وعذابات أبنائها وتضحيتهم ، مما أوحى لي بإفتراض أن الكاتبة ربما تكون مرت بهذه التجربة المريرة ، تكرر هذا في المجموعات القصصية التي قرأتها :حالة حب مجنونة ، الحب له صور ، إمراءة في إناء ، في روايتها " صمت الفراشات " كانت الأم الشامية إحدى الشخصيات المحورية المهمة ، وحدث زواج الأب بالأم الشامية كان له أثرٌ غير يسير في سير الرواية .
* الجرأة في النقد ، حين يكون نقد الكاتب إنتحارياً وصادقاً وذكياً يتولد لدي الحب والتقدير لهذا الكاتب ، ليلى كانت تعري المجتمع البرجوازي الخليجي ..كانت تمقته ، تلعن الدسائس والأخلاقيات السيئة التي تتخذ من هذه البرجوازية غطاءاً لها ، كانت تستخدم سياط القلم علها توقف تلك التجاوزات التي أفسدت المجتمع فكان جزاءها السجن والمنع ، فقد منعت روايتها " العصعص " من النشر ، وحكم عليها بالسجن شهرين عام 2000 م بتهمة ( نشر كتابين يتضمنان "عبارات مسيئة للدين وخادشة للحياء العام" حسب رأي المحكمة ) من ويكيبيديا .
ليلى قاصة رائعة بإمتياز ، فمن خلال قراءتي لمجموعاتها الثلاث :حالة حب مجنونة ، الحب له صور ، إمرأة في إناء اكتشفت حسها القصصي الساحر ، كان لها نظرة مختلفة للظواهر والأحداث تصنع من العادي لاعادياً ببساطة ورمزية ذكية ، هل تذكرون قصة ( لوحة ارنولفيني )في حكاية الصبي الذي رأ ى النوم ، قرأت قبلها قصة قصيرة بذات التقنية عند ليلى في قصة " عجوزان..لوحة و قطة " ضمن المجموعة حالة حب مجنونة الصادرة عام 1992، يبدو أن تقنية قراءة اللوحة وافتراض قصة لها من تقنيات القصة القصيرة والتي تُعطي للكاتب محتوى فريد وفكرة شقية لقصته التي يشرع في خلقها .

سطور من " قصة عجوزان..لوحة و قطة " :

( عيناها تسقطان على الجدار المقابل . تحضنان اللوحة القديمة التي يتشارك فيها عجوزان ابتسامة نابضة . ويسترخيان تحت شجرة خضراء مثمرة . شيخوخة سعيدة وقفت أمامها في أحد المعارض الفنية يوماً مشدودة ومشدوهة .. وسرحت في سنواتها المقبلة ، لم تصح من غيابها إلا حين مست كفه كتفها .. أحست به ورائها انتشلها من لحظة التأمل :

_ مالذي يغريكِ في هذه اللوحة ؟

خرج صوتها المفعمُ بالشباب :

_ الشيخوخة السعيدة

ارتفع حاجباه دهشة

_ لكنك لا تزالين شابة فكيف تفكرين بالشيخوخة ؟

_ إنها المجهول . لكن حلمي أن تكون شيخوختنا كهذين العجوزين . )

_ " وسمية تخرج من البحر " رواية الحب العذري البريء ،برعت في وصف الحب ومظاهر الحب على بطليها ( عبدالله) و ( وسمية ) .. تحكي الحب في زمن السبعينيات ايام بيوت الطين وقوافل الغوص الباحثة عن اللؤلؤ .. الكاتبة برعت في النهاية كانت نهاية الرواية فلسفية و مؤلمة لكنّها تتوازى مع الحب الصادق المجنون فكانت تضحية عبدالله بقدر حُب وسمية ..

_ " صمت الفراشات " من الروايات الحديثة التي صدرت لها ، لاحظت فيها إنخفاض الحبكة خلاف حبكتها في وسمية ، قصتها كانت مكرورة صحيح أن قصة حُب وسمية كانت مكرورة أيضاُ لكنّها كانت تضرب في العمق بفكرتها وأحاسيسها ، أحسست في "صمت الفراشات "بأنها تزج بين سطورها ببعض المشاهد بفظاظة ،فلا مناسبة لذكرها ..فكانت مجرد حشو للرواية ولزيادة عدد الصفحات لا أكثر ، لا أدري في الحقيقة إن كان حدسي صادقاً أم لا ولكن الرواية بدت لي مصطنعة وبلاستيكية بشكلٍ كبير ، لذا أرى أن أعمالها الأولى أفضل وأصدق مما صدر لها حديثاً رغم أنّي لمّ أقرأ لها حتى الآن آخر ما صدر لها " خُذها لا أريدها ".

في النهاية ... القراءة ليست عادة ،هي روحٌ أُخرى ترافقك دوماُ في حلك وترحالك ، متعة متجددة كل مرة ، الكتاب رفيق نادرٌ في السفر .. ماهي تجاربكم معه ؟ وهل كان إنغماسكم فيه ومعه أثناء السفر ألذ وأمتع من أحوالكم العادية؟ ..
في الإجازة الفائتة حزمت الحقائب ودسست فيها أدجار الآن بو وقطهُ الأسود كرفيقٍ لي ،  ما الكتاب الذي  حرصتم على مصاحبته هذه الإجازة ؟ وما إنطباعكم عنه ؟ *  ـــ  *

تعليقات

  1. ااحسنتي بما وصفتي ابا احمد فهو كاتب تشعر ان قلمة هو قلمك يكتب بلغه سليمة رصينه وخفيفه ويمزجها بمفردات شعبيه فهو يجيد الكتابه الشعبيه جدا وكم كنت اتمنى عليه ان يخصص لها وقتا لانها موروث وفيه فوائد عده اعني موروثنا الشعبي من حكايات وقصص واخرى
    لاضير ان جفاه الاعلام وذكر غيره وصدره
    فالمتلقي يعي ويعرف ويميز الطيب من الخبيث
    فمن صدره الاعلام وهو خاوي لايجد مثل من هو مثلك يتابعه ويكتب عنه ويصفه احسن وصف
    تحياتي لا اريد الاطاله وان كان ابا احمد يستحق الصفحات الكثار تسرد محاسنه واوصافه،،،
    لكن هو من هو فلن يفيده مدحي ولن يضره ذمي
    فالعبره بنتاج قلمة فمن ذا الذي يجرؤ على نقده وهو عالم باللغه متمكن من تصريفاتها واعي لمعاني مفرداتها®️
    عذرا للاخطاء فالكتابه من جوال مرهقه خصوصا ان كان ذو شاشه تقليد
    ابوياسر

    ردحذف
  2. أنواع أنظمة السنترالات PBX وفائدتها للأنشطة التجارية في عام 2022

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...