التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ترهات

" لغط موتى " ، رواية سعودية ليوسف المحيميد أبطال روايته هم أبطال رواية يكتبها يتشكلون أمامه بهيئة شبحية ويضيفون التفاصيل التي يريدون وينهرونه إن أضاف لشخوصهم خصلة ليست فيهم ، أو روى حياتهم بطريقة خادشة فإحدى تلك الشخوص تجلس على حافة مكتبِه مدلية ساقيها النحيلتين وشعرها الأحمر يغويه بالكتابة عنها ، لكنه كلما كتب اسمها شم رائحة الورق وهو يشتعل والحبر الذي يذوب ، كتب بالقلم الرصاص فكان دوماً يرى أثر ممحاة سخيف ..
أكتب الآن وهناك خيالي يستجوبني على الكرسي ويدخن سيجارة !
لحظة ،أنا لا أدخن لكن هذا اللئيم يمارس نفخ الدخان أمامي بشكل مستفز والأوراق البيض منتثرة أمامه، وبيده القلم ويشير بإصبعه لي أن أحكي، وأنا أتململ في مقعدي... يزعجني الاستجواب والاستنطاق الذي يمارسه معي خيالي لأول مرة، لكنها حيلة العطشان في حفر بئر بأظافره، علّه يجد التراب مبللاً أو ينبثق الماء من بين أصابعه..
يقلب عينيه في وجهي يبحث عن ذكرى راسخة تصلح أن يكتبها أهزوجة أليمة، أو حكاية عشق تصلح أن تبعث إحساس الغبطة والتقدير من قارئ يقرأها، أصرخ به :
_ أنا لمّ أقترف خطيئة الحب الغبي !!
ينفث الدخان باستفزاز وبرود متزايد ، يهز السيجارة التي تستقر بين إصبعيه الأبيضين ، يتساقط الرماد من طرفها المشتعل ، أقول له :
_ الرماد ضارٌ بالصحة يا....
_ صحيح بما أُناديك ؟؟
يضحك بقوة، بعنف، يسعل من قوة الضحك، أرى فمه خالياً من الأسنان، رغم أنه وهو مغلق لا أجمل من شفتيه المنبسطتان والتي توحي بأسنان كاملة.
_ ناديني " كاسبر " .
يقفز إلى عينيّ الشبح الكرتوني الأبيض، الذي عشقته وأنا طفلة تبتلع بعينيها أفلام الكرتون كما تبتلع حلوى السُكر !
_ سنين الطفولة هي الوقود للكاتب الذي يطمح أن يكتب شيئاً يُقرأ باهتمام، بشغف .. تلقفي هذه النصيحة فلا شيء أصدق من طفلة خالية الأسنان ترسم الضحكة بقلمها.
_ لا أذكر متى كنت بلا أسنان !
_ كلنا كُنا بلا أسنان ، نحبوا ونأكل النمل وننعم بالأحضان ببراءة ، وتتلقفنا الأيدي والقبلات بحنو، كلنا لا نذكر خطوتنا الأولى ولا دهشتنا الأولى بالأشياء ، لكننا نذكر شقاوتنا الأولى وحنيننّا الأول للمكان والزمان و الأشياء ، كلنا تسكننا بهجة الطفولة ولم تُغادر دواخلنا قط ، كلنا لازلنا نحتفظ بأول حقيبة اشتريناها وأول حرفٍ خططناه وإن اضمحلت بفعل الزمن ، كلنا عشنا حُب ابن الجيران أو تخيلنا قصة الحُب هذهِ .. ورسمنا بيتنا وأطفالنا على ورق كُراس الرسم الرخيص ...
كلنا مارسنا الخطيئة الأولى والعلقة الأولى والسرقة الأولى ، ولا زلنا نمارس فن السرقة والخطيئة على الورق الآن ، نسرق ذواكرنا منّا ونسرق الآخرين ذكرياتهم ونرسمها على الورق رواية ، وقصة ، وقصيدة حلوة نمضغ نجاحها ، ونمضي . ..
_ كاسبر : لمّ أمارس حُب ابن الجيران ، ولمّ أسرق سوى قصص خالتي العاطفية من مكتبتها ، ولم أضرب سوى أخي الأصغر منّي ، لمّ أعشق سوى نظارتي البلاستيك الوفية ، ولمّ أضحك ملئ أشداقي سوى مع صديقتي " وديان " ذات الشعر الأسود الناعم والضحكة التي تنبت في فيك ضحكة أخرى رغماً عنك ، لمّ أسكن بيتاً من الطين والآجر يبعث فيّ الحنين ويزرع الوفاء لجدرانه حتى أرسمه لك بقلمي ، سكنت في بيتٍ إسمنتي ،حوائطه مُسَلحة ،وأثاثه جافٌ باذخ . لا أشعر بالألم سوى لـ نخلتنا النجدية الشامخة في فنائنا الخارجي ، أشعر بالغصة وأنا أتذكر مذاق بلحها الحلو وظلالها الكريم على أرضنا الرخامية ، أذكر جذعها الباسق والذي تختبئ العصافير في تجاويفه ، وطعم طينها ، لقد تذوقت مرةًّ طعم طينها أنا وابنة خالي " منيرة " حين سقطنا يوم العيد من الأرجوحة ، لتمتلئ أسناننا بالطين ونذوق طعمه المعدني الرطب ، وتمتلئ ثياب العيد اللامعة بطين نخلتنا ( السلّج ) !
لا أذكر سوى قرصة أبله ( طَرّفة ) الحارقة على لحم ذراعي ، حين لمّ أكتب كلمات درس الإملاء جيداً ، لأجلس في مقعدي وعينيّ وقلبي محتقنان بالدموع ، أراقب صراخها وهي تشرح درس الإملاء وبطني يلتوي كأفعى جائعة ، خوفاً وقهراً منها ، أعود إلى البيت ببقعة بلل في الخلف ، وخزيٌ لمّ يغادر روح الطفلة فيَّ .
... يفتك الصداع برأسي، أتمدد على الأريكة وأسحب اللحاف الدافئ الذي أحضرته معي من حجرتي، وأنام.. دون أن أعتذر من ( كاسبر ) !
في الصباح مجموعة أوراق، وأولى تلك الأوراق ورقة بيضاء كُتب عليها بالرماد:
نَجَحتِ !



:) مع كل التقدير للكاتب يوسف المحيميد

تعليقات

  1. تحية طيبة...
    استمتعت كثيرا بالقراءة هنا...
    دمتي بخير...
    http://freebook.maktoobblog.com/

    ردحذف
  2. كل التقدير للكاتب يوسف ..ومزيد من التقدير لك

    ردحذف
  3. openbook :
    أهلا بك دوماً ، المدونة تبتهج بتعليقك ..

    ردحذف
  4. حامد :
    حياك الله وبياك ...
    وكل الشكر والتقدير لحضورك .

    ردحذف
  5. الرخص وخدمات الكلاود Cloud licence خدمة تقدمها شركة مدن الاتصالات بصفتها موزع ووكيل لكبري العلامات التجارية المعروفة علي مجموعة من المنتجات و أجهزة IP PBX المتوفرة بمتجر مدن الالكتروني.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحر وكتاب وقمر

" لتبدأ الحياة كل يوم كما لوأنها بدأت للتو " غوته ( 1 ) الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر . ( 2 ) البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأق...

إنني لا أقرأ يا أمي

إنني لا أقرأ يا أمي، لم اعد أملك القدرة على فتح كتاب، غدا مخي يرسم خيالاتٍ حامضة في كل صفحة أقلبها.. توقفت عن الأخوة كارامازوف بعد أن ضقتُ ذرعاً بحديث الأب زوسيما الرتيب المنخفض، وعيون ألكسي المتسعة في إستنكارٍ صامت. ونقاشات الأخ إيفان و والسيد ميوسوف. أردتُ قراءة أهالي دبلن، ولم أقدر سوى على ثلاث قصص تحديداً .. مليئة برائحة السعوط والكهنة، مزاج جويس مخيف وقاتم لكنه حقيقي تماماً لدرجة ان رائحة موت الكاهن العفنة تسللت لأنفي وأنا أقرأ قصة "الأخوات" ، ورأيتُ بعينيّ ظلام سوق آرابي وهو يقفل مطفأً انواره في القصة الكاملة " سوق آرابي ". إنني لا أقرأ يا أمي، ونفسي بلونِ الكُحل، وجسدي واهن وضعيف كورقة مثقوبة، ولا أحد يتحمل شكاية بلا حجم سوى قلبك الممتد حباً، أعلمُ أن ما أكتبه وما كتبته قد لاتقرأه عيناكِ يا أمي، لكن ربما هذا السبب الذي يجعلني أكتب لك، لإن أحدثك دون أملأ قلبكِ بحزني ، وقلقلي ، ونزقي، ومزاجيتي ، وأحلامي، وثرثرتي.. حاولتُ مرة أن أحتويك وأن ألصقَ صدركِ بصدري حين بكيتي في المرات القليلة التي رأيتكِ تبكين فيه، حاولتُ إحتضانك، وإذ بكفيك المكورتين كقبضة لينة ت...

ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة

  تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة!  تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟ بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة  بمثابة احتفال قرائي أختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، أسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي. مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل. في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة. فرانكشتاين في بغداد: اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد).  بدأت بها مساء يوم العيد ...