التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صداقة الأشياء وغربة الراعي الحزين (46)

سقف  العمل

أ
أثناء قراءتي لموبي ديك

حاولت البداية من النهاية، نهاية آخر تدوينة، وبعض المسودات المشوشة، إلا أن ذلك قادني لتشتتٍ أكبر وأعمق، وتذكرت النصيحة الأبدية من كُل كاتب: أكتب ماتفيضُ به نفسك وحسب، أكتب حتى لو كان ماتكتبه مملاً ومقيتاً وعامراً بالأخطاء، تدفق فحسب.
 في بداية عملي الجديد كُنت أحاول التعرف على الجدران، والأرض المغطاة بسجاد رقيق مخطط بالألوان: أصفر، رمادي، أحمر، فجأة رفعت رأسي إلي السقف! فهمست بغبطة: أنت صديقي. ومذ تلك اللحظة غدا صديقي الأول في ذلك المكان الغريب.
اعتدتُ على عقد صداقاتي مع الجمادات، أُسامر الثلاجة وأتخيلها تؤدي دوراً معي في مشهدٍ درامي حافل بالدموع، أحادث المرآة لساعات وأسألها عن رأيها في أنفي وأسناني وشعري، وأنا صغيرة إقتنيتُ حقيبة قُماشية فسفورية ذات عينين زرقاوين ناعستين واتخذتهارفيقتي الدائمة إضافة لرفقة نورة الهادئة ذات الشعر القصير الأسود والبشرة القمحية الموردة، افترقنا انا ونورة، صادقتُ وفاء وافترقنا، صادقت اسماء وهند اللطيفات وافترقنا، صادقتُ مروة وافترقنا، في السنة الجامعية الثانية وحيدةً تماماً، وإن جلست مع هذه او تلك من الفتيات اللطيفات، لكنني أدركت أن الوحدة وصداقة الأشياء هي الباقية، فلا زلت رفيقة الثلاجات، والمرآة ناقدي القاسي الأول، فيما اخترت السقف هذه المرة بأنابيبه الضخمة التي تشبه المجاري في أحد مراحل لعبة الفيديو " كراش" .
عقدت صداقة ممتدة علي مدي شهرين مع رواية " موبي ديك" أنا رفيقةٌ جيدة للروايات الملحمية الضخمة ، والمجلدات السميكة فهي تعيش معي لأزمنة طويلة، ترافقني في الأكل والنوم والترحال والأحلام، قد لبث هرمان ملفل عائشاً معي زهاء شهرين، غارسة  شخصية هذا الرجل الأحجل ذو الساق المصنوعة من عاج الحوت في مخي، يختار آخاب تحدي الحياة في نزالٍ مخيف أقوى من الحياة نفسها، تغرق الباقوطة بكامل طاقمها، ويربح آخاب التحدي بموته هازماً الحوت الأبيض  أما اسماعيل  الناجي الوحيد يبقى ليروي لنا تفاصيل رحلة التحويت المهيبة.
تُعلمني الحياة آنذاك أن آخاب على حق، وأن الحياة دون تحقيق الرغبات والتجربة التي تحفر عميقاً في نفسك وتحضك كما لو كانت إنساناً حقيقياً يحادثك في الصحو والمنام والأكل والشرب ليست بحياة، وأن الموت في سبيل الرغبة والتجربة التي تبحث عنها هي الحياة الحقة.
أشاهد الفيلم الذي أنتج سنة ١٩٧٠ ببطولة  غريغوري بيك مؤدياً دور آخاب، يروي الفيلم ذو الزمن البالغ ساعتين فصلاً واحداً أو أقل من موسوعة الحيتان الضخمة تلك، بلا شك العمل الروائي لا يضاهي العمل السينمائي لكني ممتنة للمخرج ولمؤدي دور آخاب إذ ساعدني علي تخيل وجه لآخاب أخيراً بعد أن رافقني في ٦٠٠ صفحة بلا وجه، ضبابي الملامح.

***
في  مجلة العربي يصافحني ذلك المقال المشحون بالشجن، مغموراً برثاء لإحسان عباس، الفسطيني النابغة مترجم موبي ديك، كتبه صديقه الأديب اللبناني" أحمد علبي" في عدد يونيو ٢٠١٧.
حادثتكم أكثر من مرة عن الصدف التي تصنعها الكتب والحكايات أمامي في أكثر من تدوينة. كهذا التزامن لمقالٍ عن المترجم بعد الإنتهاء من موبي ديك، أثناء القراءة بترجمته كنت أحاول رسم صورة ما للكيفية التي عاشها عباس مع الرواية أثناء ترجمتها لتخرج للعالم بمثل هذه اللغة الرائعة، أعتقد أن ملفل لو قرأ الرواية بترجمة عباس لربما داهمه الذهول بتفوقها على لغته التي كتب الرواية بها. هذه الملحمة ستجعلني أبحث عن آثار عباس بفضول كبير لأقرأها يوماً ما، كما أنه يذكرني بعبدالرحمن المُسيري إذ جمع الفن والنقد والفلسفة والترجمة في قالبٍ واحد.
***
هناك مصادفة ثانية مع موبي ديك، تحدث في رواية توني موريسون " ليكن الرب في عون الطفلة"، التي قرأتها محتفلة بالخلاص من الرواية الضخمة، ففي أحد الصفحات يشبه بوكر أخيه آدم ببيب البحار في الصفحة ١٣٣، تعاود "موبي ديك" الإنثيال علي بكل زخمها، شخصية بيب وصورته في الفيلم تندفع لعقلي، أحبُ دوماٍ هذه التقاطعات المتسقة مع قراءاتي بشكلق غريب نوعاً ما.

***
قرأت مقالة هيلين كلير "لو أبصرتُ ثلاثة أيام" لحاجتي لكتابة شيء للعمل عن يوم البصر العالمي، كنتُ بعد انهائها سريعاً مذهولة وحزينة.

***

أكمل كتابة هذه التدوينة التي تأجلت عدة مرات، أكتبها الآن: بجانبي كتاب" تنشئة كارل وايت" الصادر من دار كلمات، أضع مضاد التجاعيد والذي يعني استعدادي للنوم إلا أن رغبة الكتابة وتدوين يوميات القراءة  تشاكسني وتُطير النعاس عن أجفاني الأرقة.

***

" آه ان الريح طروب والحوت ساخرٌ ضحوك
وذيله ناضر
والبحر فتى دعبوب
مرح لعوب
ساخر ضاحك مجان
والرشاش يتطاير
وهذه اصبعه تثير زبدا
حين يتململ في العبير "

موبي ديك ـ هرمان ملفل ترجمة إحسان عباس ص٦٠٤

تعليقات

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. موضوع جميل امنياتي لكم بدوام النجاح والتالق
    اتشرف بزيارتكم لمدونتي الخاصة بالمسرح والفنون

    https://fineartjasmine.blogspot.com/

    ردحذف
  3. الخطوات والإجراءات الواجب اتباعها لتأسيس كول سنتر- مركز اتصال في المملكة العربية السعودية
    يعتمد قطاع الأعمال اليوم في مختلف الصناعات بشكل كبير على تكنولوجيا الاتصالات الموحدة والشبكات، وكثيراً ما يحتاج إلى طرق فعالة لإدارته.

    وفقاً لبعض الدراسات خلال الفترة الماضية ينمو سوق الاتصالات العالمي بمعدل سريع، ومن المتوقع أن يصل إلى 3461.03 مليار دولار في عام 2025 بمعدل نمو سنوي قدره 6٪.

    لمزيد من التفاصيل يمكنك زيارة متجر مدن الاتصالات | https://modn.com/ar/everything-you-need-to-know-about-starting-outsource-call-center

    ردحذف
  4. اتصال آمن مع أنظمة الاتصال الداخلي للمنازل والشركات
    مميزات أجهزة الإنتركم الداخلي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...