ليس لي خلاص منذ أن دققت المسمار الأول، حاولت التغاضي والتجاهل عن كتابة قراءاتي الأخيرة، لإن ذلك ولابد وأن يودي بي لبئرٍ عميقة من الإرهاق ... في البداية أكملت مجموعة بوتزاني، والذي كان محرضي الآول في قراءته كافكا، وفي كُل قصة كُنتث أبتسم وأقول لنفسي ربما لم يصدُق،.. لعله قرأ كافكا في الخفاء، كاتبٌ كابوسي معجون بهم الرجل اليومي، الموظف الحكومي المتورط، الكاتب، الرسام .. ثيمات بوتزاني متنوعة وربما أكثر بساطة من كافكا، ولعلها بساطة قد تُفضي لتعقيد ..
***
سأقفز بعيداً عن بوتزاني لإني سأعود في قراءة ثانية له، سآتي لمارتين سانتومي بطل رواية الهدنة لماريو بينيديتي، كيف ممكن أن تكون صورة مؤلف وملامحه محفزك للقفز أكثر في عالمه؟ هل يمكنني القول بأن ملامح بينيديتي هي التي كتبت الكتاب ؟
هناك شيء من الطيبة الممزوجة بنقمة دائمة على هذا العالم أقرأها في وجه بينيديتي العجوز .
كتب بينيديتي الهدنة وهو على ضفاف الأربعين، ورسم حال محاسبٍ كهل على ضفاف الخمسين، أرمل وووحيد، من خلال اليوميات المكتوبة لمارتين سانتومي .. في كل صفحة أتأكد من أن سانتومي هذا شخصية كافكاوية بإمتياز، يعيشُ في إنتظار لحظة التقاعد لينام نوماً حقيقياً وليس في إنتظار صرخة المنبه وطلوع الصبح ليقفز لعمله الكريه والمقيت ، يقول " ماذا لو كانت حياتي يوم أحدٍ متواصل ؟" متطلعاً لتلك اللحظة التي ينام فيه أيامه الباقية وكأنها يوم عطلة .. مشغولاً بذاته، بعالمه الداخلي المخربش من قبل الإنشغال في وظيفته وعالم الشركة والإدارة. كان يريد أن يرى مونتفيدو مدينته التي يعرف، لا تلك التي يخرج إليها كُل صباح وكأن العالم إستحال لإدارة أعمال ضخمة، ناسٌ يركضون، يفطرون سائرين، أو يلتهمون قهوتهم واقفين على منضدة داكنة في مقهى صغير في الزاوية، يريد أن يرى مونتفيدو التي يعرف ..
" ...إنني واثق من أن المدينة تكونُ شيئاً آخراً خلال ساعات العمل في المكتب. فأنا أعرف مونتفيدو الرجال الموقوتين، أولئك الذين يدخلون في الثامنة والنصف صباحاً ويخرجون في الثانية عشرة، ثم يعودون في الثانية والنصف ليخرجوا نهائياً في السابعة. لأن علاقة قديمة تجمعني بهذه الوجوه المقطبة المتعرقة، وهذه الخطوات المتسرعة والمتعثرة. ولكن هناك المدينة الأخرى، مدينة النحيلات الطازجات اللواتي يخرجن عند العصروقد استحممن لتوهن، المتعطرات الخفيفات، المتفائلات، المتظارفات، ومدينة الأبناء المدللين الذين يستيقظون عند الظهيرة، وفي الساعة السادسة تكون ياقاتهم ماتزال بكامل زهوها، مدينة المسنين الذين يركبون حافلة الأمينيبوس حتى الجمارك ثم يعودون دون أن ينزلوا من الحافلة، مقتصرين بلهوهم البريء على مجرد إلقاء نظرة تنعش ذاكرتهم وهم يتجولون في مدينة أشواقههم الغابرة، مدينة الأمهات الشابات اللواتي لايخرجن في الليل مطلقاً، ويدخلن السينما بوجوههن التي تحمل ملامح من اقترفن ذنباً ..."*
***
مارتين سانتومي يعيش صراعاً خفياً تظهره يومياته، وأحلامه .. رجلٌ أرمل فقد زوجته الجميلة التي حظي معها في شبابه بأجمل علاقة حب ولكنه يقول " إنني لا أتذكر وجه إيزابيل ،ولكني أتذكر صوتها ولون عينيها الأخضر" في إشارة للعلاقة الحسية الجسدية التي بُني عليها حب إيزابيل، لا يتذكرُ ملامحها ولا شكلها وهي تضحك، ولكنه يتذكر ملمس شعرها ورائحة جسدها .. تقفز الأيام الكئيبة المتراتبة الروتينية بمارتين من أيامه الفظيعة التي يعيش نهاية أسابيعها في فراش إمرأة لا يعرفها_ ويقابلها في اليوم التالي أثناء إنتظاره للحافلة متأبطة ذراع رجلٍ ضخم _ تقفز به إلى ايييباندا، فتاة جديدة قدمت موظفة للعمل تحت إمرته ليعش مايُسمى بهدنة أيامه التي منحها له ربه، هدنة لذيذة حافلة بحبٍ مختلف، لم يعرفه سابقاً في شبابه، لكنه مغموس فيه مثل بطة في بحيرة منعشة ... اليوميات المكتوبة بحساسية فائقة، وببلاغة كاملة تصف حال سانتومي إزاء العلاقة الجديدة، موقفه المعلن والصريح لإييباندا، ضعفه وهرمه الذي يحسب دقائقه وهو يتقدم نحو رجلٍ خمسيني، هل يمكن أن يكون شكله في المرآة مختلفاً بعد شهور عن الآن لإنه غدا خمسينياٍ ؟!
يحلل دوافعه لنا ولنفسه تجاه الحب، ثم تأتِ اللحظة الذي انكشف فيه لنفسه بالكامل لحظة مرض إييباندا ولحظة التقاعد الحقيقية، الراحة من الساعات والروتين والحسابات المريعة المتكررة مثل لعنة، يهرع إلى اييباندا ليكشف لها حاجته لأن تكون علاقتهما دائمة ديمومة الحياة، يهرع ولكن مالذي حصل ؟ يكتشف أن سعادته تلك كانت هدنة هدنة مابين موت إيزابيل وموت لورا لتمضي حياته وفق مشيئة لا يديرها هو بل يديرها الرب الذي يقول عنه مارتين : " إنني أرغب أن يكون موجود، ولكن لستُ متأكداً من وجوده " .. فهل كانت حياة مارتين وتلك الهدنة تتتكشف عن إيمان ضعيف أو متلاشي في حياة سانتومي ؟
***
دون أن أدري كان فرانز كافكا في لاوعيي وانا أقرا الهدنة، في منتصف الرواية وحين إنطبقت جفوني وأصبحت السطور مثل تمتمات غامضة لا أعي معناها، وبعدأن غدت الكلمات السوداء مثل مقطورات صغيرة بلا نهاية... نمت وحلمتُ ليلتها بكتابٍ جديد يستريح في مكتبتي، لقد أدركتُ وجوده فوراً لإن غلافه أبيضٌ لامع يشبه أغلفة مجموعة كافكا الناقصة لدي والصادرة عن دار الحصاد، كان له ذات الغلاف إلا أنه أقصر وأكبر حجماً، سميكاً مكتنزاً بالأوراق .. قلتُ لابد وان يكون مجلد الأعمال القصصية، والذي يحوي قصة بنات آوى والعرب، والنسر وسور الصين، إقتربتُ لإلتقطه، مددتُ يدي ، فأتسعت المكتبة وغاص الكتاب في المجهول، تساقطت كتبي في عالمٍ أسود كثقبٍ يبتلع كُل شيء، تلاشى الحلم، وتلاشيت في عالم النائمين.
ماهذا الحلم مقارنة بأحلام السيد سانتومي ؟ كحلمه وهو طفل بـ " دون بوليكاريو "... حلمٌ مخيف وفاتن، أحلامنا تكشف دواخلنا، وأمنياتنا وحتى ربما ترشدنا لطريقنا المستقبلي ... إنها رحلة قصيرة لعالم الأموات ، ولبرزخٍ غريب في عقولنا، وقد يكون مايحدث في ذلك العالم هو الحقيقة ووواقعنا الحلم.
المهم، أن دون بوليكاريو هذا هو مسخ يعاقب الأطفال اللذين لا يأكلون، وكانت جدة سانتومي توحي له بوجوده بتنكرها، فترتدي معطف الخال الفضفاض، وتضع على رأسها عمامة، وترتدي نظارات سوداء وتقرع النافذة على سانتومي الطفل ليخيفه ويأكل طبق البطاطا المسلوق بأكمله خوفاً من عقاب دون بوليكاريو.
كان سانتومي حتى زمن بعيد لا تقاطعه الشخصيات البوليكارية فيزوره طابورٌ طويل من هذه الشخصيات المقنعة وسط ضبابٍ كثيف مولية قفاها له، وفي إحدى لحظات حلمه الحاسمة كانت الشخصيات البوليكارية تتحرك بحركة تشبه الترنح المتواصل، جاريّن وراءهم عباءاتهم القاتمة الثقيلة التي تشبه معطف الخال، وقتها كان مارتين سانتومي يشعرُ بشعورٌ متفرد نادر وغريب يقول : " الغريب في الأمر أن رعبي في الحلم أقل منه في الواقع، ومع مرور السنوات تحول الخوف إلى إفتتان .... بعد سنين طويلة وهو يتأرجح نحو الخمسين يحلمُ بالمقنعين من جديد، ويخفق قلبه خفقة السعادة المرعبة المفتونة وهو يراقب طابورهم الطويل ..وتهتز معاطفهم لتجر أذيالها المفارقة هنا أنهم لم يكتفوا بالتقدم بل إلتفت جميع المقنعين لسانتومي العجوز وكانت وجوههم كما يقول : " جميعاً كوجه جدتي ... كان هذا الحلم بعد رؤيته لآبيياندا لأول مرة، وكان هذا الحلم الحلم الأخير فهل كانت زيارتهم الضبابية تلك كشفاً لسانتومي بأنه سيعيش السعادةلآخر مرة ؟
***
أصبح بالي مشغولاً بما وراء الهدنة ، كاتبها بينيديتي.. قرأت عنه سيراً مختزلة باللعربية، ومقالات بالإنجليزية... أصبحتُ شغوفة أكثر بعالمه، المكون الحقيقي لما يكتب.... كان قاصاً، شاعراً، روائياً، وصحفياً غزير الإنتاج ... قدمت أسرته من إيطاليا للإستقرار في الأرغواي .. و وُلد عام 1920..عمل محاسباً في إدارة ومارس مهناً مختلفة إلى أن استقر به المقام في الصحافة، كتب الهدنة 1960 وانتشرت إنتشاراً هائلاً، وتُرجمت ل19 لغة، وكان يقول : " ياللهول لم أتوقع الإهتمام بها إلى هذا الحدّ " !
قرأتُ قصة قصيرة جداً له، تأكد لدي بعدها تأثر بينيديتي بكافكا، خصوصاً بعد إنهائي للرواية، والتي كانت تعرضُ الهم الوجودي لموظفٍ منهوك، أصبح لا يستطيع معه أن يدرك معناه ولا كيفيته، ولايصل بتراتيبية سليمة للإحساس بهذا العالم وبنفسه..إلا بعد أن يبلغ الخمسين، وقتها فليفهم السعادة والشقاء وسر الموت والحياة ... ولكن بعد نفاذ الزمن من بين يديه.
هُنا أورد الأقصوصة لتدركوا سبب ربطي له بكافكا :
اللقاء
( كانا قد التقيا في إحدى الحانات، كل أمام كأس من البيرة، شرعا في الحديث عن الطقس والأزمة مثلما هو متوقع، ثم في مواضيع مختلفة دون أن تكون مترابطة منطقيا.
كان الرجل الهزيل على ما يبدو كاتبا، والآخر، رجل من عامة الناس. وراح الرجل الذي من عامة الناس- دون أن يعرف أن الرجل الهزيل أديب- يمتدح وضعية الفنان وما أسماه بـ”الامتياز البسيط المتمثل في القدرة على الكتابة.”
“ليست الأمور رائعة مثلما تظن- قال الهزيل- فثمة أيضا لحظات قاسية جدا، يصل فيها الإنسان إلى نتيجة مفادها أن كل ما كتبه زبالة. ويحتمل أن لا تكون الأمور كذلك، لكن هكذا يعتقد الإنسان. حسنا، منذ زمن قصير مثلا، جمعت كل أعمالي التي لم أنشرها (أو لنقل عمل سنوات عديدة)، وناديت أفضل صديق لي، و قلت له: “حسنا، هذا لا يجد شيئا، لكنك تفهم أنه يحز في نفسي أن أقوم بإتلافها. ولذلك أطلب منك خدمة، وهي أن تحرقها من أجلي: فاقسم لي أنك سوف تحرقها.”
و أقسم لي.
اندهش الرجل الذي من عامة الناس كثيرا إزاء هذه القدرة على النقد الذاتي. غير أنه لم يجرأ على أي تعليق. وبعد برهة من الصمت، حك رقبته، وعب كأس البيرة: “ارنستو تشافيث، بائع متجول”. و مد له يده.
“تشرفنا، قال الآخر وهو يضغط على يده بأصابعه الهزيلة، فرانز كافكا في خدمتك. ) **
***
أستطيعُ الآن ان أتنهد تنهيدة راحة وأستأنف قراءةالأخوة كارامازوف لدستويفسكي، بعدُ أن إستطعتُ إيقاف عبث بينيديتي داخل عقلي، توقفتُ عن قراءة خالدة دستويفسكي بعد أن أصبح إحتدام الأفكار داخل رأسي شديداً مما جعلني أفكر بأن ابتلع تلك الأفكار وأحجم عن كتابة قراءة عن الهدنة !
هرعتُ لتصفح الشبكة بحثاً عن خلاصٍ من شيء متأزم ولا أدري ماكهنه، لكنه ملح ويخربش تفكيري تماماً... أبحث عن وصفة صنع كعكة الأجاص .. فقد نويت إلهاء عقلي عن الكتابة والقراءة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً : أأكتب عن الهدنة أم لا ؟
قررتُ صنع تلك الكعكة في يومٍ ما منذ شاهدتُ جودي فوستر تقدمها لضيوفها في فيلم Carnage، وهي تقول " إنها لذيذة، بوصفة جدتي الخاصة " .. وقد أتى هذا اليوم حتماً !
لا سبيل لتفريغ طاقة إلتحام الأفكار هذه إلا عبر صنع طبقٍ يستغرق صبراً وزمناً طويلاً، كانت إحدى خطوات الصنع أن تُصنع هريسة كمثرى بمزجها بالسكر وتخمرها ساعة كاملة قبل مزجها بالدقيق وبقية المواد.. أثناء هذه الساعة وأنا على مقعد المطبخ إتزنت أفكار قليلاً كمن يعبر نهراً على حبل، وتركت الكمثرى ثلاث ساعات، وهرعت للكتابة مُقررة أن أصنع مربى أجاص في النهاية، فعلى مايبدو : لم يحنْ بعد الوقت الذي أصنع فيه كعكة من ثمار الإجاص الإيطالي المصفوف في البراد.
***
الوعد بكتابة التدوينة التالية عن إليف شفق، فقد إسترددتُ اليوم الرواية بعد أن إستعارها مني "ع" وقرأها .
________________
* من رواية الهدنة
** ترجمة وليد سليمان، المصدر : هنا
حلول الشبكات أختيارك الامثل في عالم الأعمال
ردحذفلمزيد من التفاصيل يمكنك تصفح مدونة مدن التقنية | https://modn.com/ar/network-solutions