التخطي إلى المحتوى الرئيسي

21



حنفية المطبخ تنقطُ بإستمرار وديمومة، أنا أحاول التركيز في قراءتي فيما نزيف الحنفية المتكلسة مستمر بلا نهاية، أضع الفاصل وأقوم لأجد حلاً ولو مؤقتاً للنشاز الذي يكسرُ نوتة الليل الشتائي الخامد الطويل.
لم أضع خرقة مطاطية على الفوهة، لنستيقظ على طوفان يملأ الشقة ويغرق الأثاث، وتسبح الكتب كما في الرسوم الكرتونية : توم وجيري. تخيلت المكتبة تسبح .. ماذا سألتقط، صورة كافكا السابحة مع يومياته حتماً، لكنه كتابٌ ثقيل سيغوص في القاع ليحقق إحدى قوانين أرشميدس، لابد أن أحد كتب أصلان هي التي ستتناولها يدي، كتابٌ مثالي للسباحة وسط طوفان الحنفية المتخيلة، غلافه براق آسر، برسومٍ فرعونية، وصورة الطائر العجوز الذي يرسمها اسمه في مخيلتي : إبراهيم أصلان .
لنبتعد عن مخيلتي المريضة والمبللة ، والتي كانت كُل يوم تصنع سيناريوهات مفترضة أبدأ فيها التدوين عما أقرأ، ولم يدرُ في خلدي ان مجرد طرقات ماء الحنفية على الحوض المعدني ستنهضني من أكوام الأدثرة واللحافات لأخترق برد هذه الليلة وأبدأ التدوين .

*** 
وبمناسبة الحديث عن الطرق والحركة الإهتزازية المملة التي تمارسها بعض الأجسام في حالاتٍ معينة، والتي تُدعى فيزيائياً : الحركة البندولية" ، بدأتُ بقراءة الجنرال المجهول لدينو بوتزاني، وهي مجموعة قصصية للفنان والروائي لإيطالي ، قرأتُ ثلاثة قصص.. ورغم سوء الترجمة فإن عبقرية المواضيع ومباغتتها لم تقدر هذه الترجمة السيئة على نحرها. هناك قصة عن هذه الحركة المرعبة بعنوان : " التيك تاك"  قصة رمزية عن ذات التردد المتكرر لطبيبٍ نفسي يحاور صديقه، مذهل جداً موضع هذه القصة .. كما أن إتقان السارد الذي يتنقل كحوارٍ بين الطبيب ورفيقه جعلني أغض طرفي تماماً عن الأخطاء النحوية والإملائية لمركز الإنماء الحضاري السوري _ قد أغفرُ فقط لهم جودة الحبر والورق والطباعة الجيدين _.. ...مذهل تماماً!!
  ويجعلني أعجل من قراءتي باللغة الإنجليزية لأقتحم عالم قصصه ومقالاته، ودروغو في روايته صحراء التتار، فالقارئ العربي في هذا الوقت مغبونٌ تماماٍ وسيتعدى الكثير من المؤلفات إن هو إعتمد على الترجمة السلحافئية المحبطة للغة العربية.
ثيمة البندول كما سأطلق عليها تغزو أفكار الكثير من الروائين والكتاب، كما لإدجار بو في قصته : " القط الأسود " و " القلب الي كشف السر " .. وفي بندول فوكو لإيكو رغم أني لم أقرأها في الحقيقة لكن بضع مقالات نقدية عنها كانت كافية لإستنتاج ذلك. بوتزاني عالمٌ بحاله قدر على إقتطاع وقتي بقصصٍ صغيرة وبترجمة سيئة فيما كنتُ ممتعضة مع منتصف رواية مشري : " المغزول " .

***
" الشتاء طيب إذا كانت هناك قدرة على تركه خارج الباب ...... " * عبد العزيز مشري 

في المغزول كتب مشري قصة حياته، قافزاً من طفولته حتى المراحل الأخيرة منها حين إستلزم مرضه البتر، 
فقضمت المشارط الإبهام فيالبداية، ثم باتت جروح قدميه في حد من العفونة وفقد التروية الدموية التام، حتى بُترت القدمين، 
فيصف نفسها في بداية الرواية ونهايتها كحشرة مسحوقة مثلما كان يفعل مع صبية القرية بالحشرات في صغره،
 الرواية لا تعدو كونها سيرية " أي من السيرة الذاتية" فحسب، بل هي رواية كتبت بتقنية سردية متقنة تتبع منهج تيار
 الوعي ، فلأحداث تتدفق من عقل البطل : " زاهر " ليعطي للقارئ نظرة شمولية رائعة غير منقوصة،بها تطرق لفلسفة 
المرض، من وجهة نظره كراوي خاض غمار الحرب مع المرض، حتى تعدى بالرواية عن التجربة الشخصية إلى 
الإنسانية، بحيث لم يجعل فكر الرواية يدور حوله ومرضه فقط.، تطرق لعلاقات البطل مع الناس، وحياته مع أسرته في القرية 
وكيف كانت، تطرق للحديث عن الحب والوطن في سطورٍ لابد من ذكرها هنا في يومٍ من الأيام. الرواية رائعة وحزينة، أصابتني
 بـ الإمتعاض والحزن الكثيف، بعد قراءتي للمقدمة التي كتبها رفيقه الأديب : " علي الدميني " نهايةٍ إلى قصة مشري التي إكتشفتها 
بنفسي عبر محركات البحث .. مشري تجربة فريدة ، لابد وأن أخوض غمارها معه عبر كتابٍ آخر من كتبه .

***
كنتُ أريد لهذه التدوينة في الأساس الحديث عن " إبنة الضابط"  لألكسندر بوشكين، لكن كقطعة صوفٍ مطاطة إمتد 
الحديث إلى كتبٍ أخرى وتشعب فأفضل كتابة قراءتي في التدوينة القادمة عن الشاعر الأسمر ألكسندر بوشكين، الذي 
إكتشفت بقراءتي له عالماً آخر لخلفيته الأدبية والثقافية والعرقية .. وووجدتُ أن قصص ألف ليلة وليلة كإبرة في قش،
منغرسة في عالم القص .. إذ كنت أكتشف أثرها الخفي والسحري بعد كل قراءة أو رواية. فـ كمثالٍ فوري وطازج:
 هنا لدى بوشكين، وتالياً لدى شافاق في" قواعد العشق الأربعون "..

***

عمار الشريعي مات ..
أُبجل قدرة هذا الرجل على صنع خلفية موسيقية ارتكزت عليها آذاننا المشنفة لسماع مقدمات المسلسلات المصرية
 آنذاك،عبرآرابيسك ورأفت الهجان، ورياح الخماسين، أعتقد أني أدين لهذا الرجل الضرير بإستقامة أذني لحدٍ ما ..
 حزنت لوفاته، ليرحمه الله.

***
أقرأ الآن : " قواعد العشق الأربعون " لإليف شافاق .
حكاية اخرى تطرقها هذه الكاتبة التركية بعيونها الزرقاء، حبكة الرواية وقوتها كرواية سحرية عن الحب الصوفي 
والمتصوفين عبر قصة جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، حكاية تجعل شعر رأسك يقف، عن القوة الخفية
 الباطنة واللاماورائيات ، عن ماهية الحب، والإيمان، والعلاقات بين الأرواح .. شاهدتُ وثائقياً عن قصة الرومي و
التبريزي من إنتاج الجزيرة الوثائقية، لكن عالم شافاق وسردها وصورة التبريزي المجسدة في خيالي بعباءته السوداء
 وبريق عينيه .. هي أشد وطئاً، هذا فقط إنطباعٌ أولي ..فمازلت تقريباً في منتصفها. فبعد تمام القراءة ستحكى الحكاية كاملة .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحر وكتاب وقمر

" لتبدأ الحياة كل يوم كما لوأنها بدأت للتو " غوته ( 1 ) الإجازة فرصة لتغوص أكثر في ذاتك ، تجربة جديدة لأرضٍ جديدة تزورها.. تكتشفها ، تبحث عن تاريخها المدون على سمائها وفي أوراق حشائشها . الإجازة تعني لي لذةً جميلة تتناسل كل عام للتوحد مع كتاب وإتمامه في أيامٍ معدودات على ضوء قمر وشاطيء ورائحة ملح ، أو تحت ظل شجرة وهدوء ظهيرة باردة ، الإجازة محاولة للتحرر من الضغوط و الإلتزامات السخيفة المكبلة لي .. الإجازة حرية مؤقتة تُهديها نفسك ، وعلاقة تجددها مع الروح لتكون روحك هي صديقة روحك .. الإجازة أنت وأنا ولا شيء آخر . ( 2 ) البدايات صعبة و القراءة كأي بداية متعثرة متخبطة غير ثابتة كخطى الطفل الرضيع ، بداياتي كبداياتكم جميعاً قصص المغامرات والألغاز، شُغفت بها اقتنيت كل ما قدرت عليه .. المغامرون الخمسة ، رجل المستحيل ، ملف المستقبل ،( حتى الروايات العاطفية جاء عليها الدور بس ما طولت فيها ).. انغمست في أدب آجاثا حتى النخاع ، غمرني محفوظ ابو روايتنا بحنانه وقوته الروائية ، بدأت أتنوع ... أحرص على أن استفيد من الكُتب ومن القراءة .. قبل أن اقتني أي كتاب ابحث عنه وأصنفه وأق...

ورطة القارئ في الأعياد: نصائح لقراءة منعشة خلال أيام الإجازة القصيرة

  تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة!  تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟ بالنسبة لي تكون هذه العطل القصيرة  بمثابة احتفال قرائي أختار فيه كتاباً بعشوائية تلائم نمط فوضى هذه الأيام، أسميه كتاب العيد وأغوص فيه بكل حواسي. مررت بعشرات الأعياد، عشت فيها تجارب مختلفة مع كتب عديدة: منها ما كان اختياره في هذا التوقيت موفقاً ورسخ داخلي قراءة لا تنسى، ومنها ما كان اختياره مروعاً! وتحول لزومبي يزورني ليالي العيد الساكنة السوادء وأثناء غيبوبات نعاس العصر الطويل. في هذا المقال سأستعرض معكم بعض هذه التجارب، ولن أنسى إضافة بعض النصائح المركزة للفوز حقاً بقراءة منعشة في هذه الإجازة القصيرة. فرانكشتاين في بغداد: اخترت فرانكشتاين في بغداد دون الاعتبار لتنافر موضوع الرواية الرهيب مع توقيت (العيد).  بدأت بها مساء يوم العيد ...

هل ننجو من لعنة الفراعنة؟ إليكم ماحدث ..

مقولة مثل كل المقولات ! رماها أحدهم في الفضاء وتلقفتها الأفوه؛ لاكتها، عجنتها، تندرت بها، توجست منها، ثمّ: صدقتها . تلك هي حكاية لعنة الفراعنة باختصار ! منذ أن افتتح كارتر مقبرة توت غنع آمون وهناك من يؤمن بتلك اللعنة، وهناك من يضحك على من يؤمن بها … لعل ضحكه يدفع شراً ما، لكن الجميع يتفق على أنها ظاهرة غريبة ليس لها تفسير، أو قد تحمل تفسيراً أُوري في الخفاء كما يحدث مع ظاهرة موت لاعبي كرة القدم بالسكتات القلبية هذه الأيام :) ! لم يمت أحدٌ ممن اكتشفوا مقبرة (واح ـ تي) في نوفمبر  2018 ، وهو مسؤول كبير _ كاهن للسلالة الخامسة من أسرة الفراعنة _ ، حوت المقبرة عدة موميات لوالدة هذا الكاهن وأولاده وزوجته، إضافة لموميات لبوة وشبل أسد، حوت المقبرة قصة حياة " واح تي " وتاريخاً آخر لصراعٍ عاشه مع مواطن فرعوني آخر أراد أن يطمس حضوره بعد الموت واستولى على المقبرة عله يحظى بجنة (واح - تي) بعد الموت ! خلال ساعتان مركزة من السرد المرئي لاكتشاف غرفة  ...