حنفية المطبخ تنقطُ بإستمرار وديمومة، أنا أحاول التركيز في قراءتي فيما نزيف الحنفية المتكلسة مستمر بلا نهاية، أضع الفاصل وأقوم لأجد حلاً ولو مؤقتاً للنشاز الذي يكسرُ نوتة الليل الشتائي الخامد الطويل.
لم أضع خرقة مطاطية على الفوهة، لنستيقظ على طوفان يملأ الشقة ويغرق الأثاث، وتسبح الكتب كما في الرسوم الكرتونية : توم وجيري. تخيلت المكتبة تسبح .. ماذا سألتقط، صورة كافكا السابحة مع يومياته حتماً، لكنه كتابٌ ثقيل سيغوص في القاع ليحقق إحدى قوانين أرشميدس، لابد أن أحد كتب أصلان هي التي ستتناولها يدي، كتابٌ مثالي للسباحة وسط طوفان الحنفية المتخيلة، غلافه براق آسر، برسومٍ فرعونية، وصورة الطائر العجوز الذي يرسمها اسمه في مخيلتي : إبراهيم أصلان .
لنبتعد عن مخيلتي المريضة والمبللة ، والتي كانت كُل يوم تصنع سيناريوهات مفترضة أبدأ فيها التدوين عما أقرأ، ولم يدرُ في خلدي ان مجرد طرقات ماء الحنفية على الحوض المعدني ستنهضني من أكوام الأدثرة واللحافات لأخترق برد هذه الليلة وأبدأ التدوين .
***
وبمناسبة الحديث عن الطرق والحركة الإهتزازية المملة التي تمارسها بعض الأجسام في حالاتٍ معينة، والتي تُدعى فيزيائياً : الحركة البندولية" ، بدأتُ بقراءة الجنرال المجهول لدينو بوتزاني، وهي مجموعة قصصية للفنان والروائي لإيطالي ، قرأتُ ثلاثة قصص.. ورغم سوء الترجمة فإن عبقرية المواضيع ومباغتتها لم تقدر هذه الترجمة السيئة على نحرها. هناك قصة عن هذه الحركة المرعبة بعنوان : " التيك تاك" قصة رمزية عن ذات التردد المتكرر لطبيبٍ نفسي يحاور صديقه، مذهل جداً موضع هذه القصة .. كما أن إتقان السارد الذي يتنقل كحوارٍ بين الطبيب ورفيقه جعلني أغض طرفي تماماً عن الأخطاء النحوية والإملائية لمركز الإنماء الحضاري السوري _ قد أغفرُ فقط لهم جودة الحبر والورق والطباعة الجيدين _.. ...مذهل تماماً!!
ويجعلني أعجل من قراءتي باللغة الإنجليزية لأقتحم عالم قصصه ومقالاته، ودروغو في روايته صحراء التتار، فالقارئ العربي في هذا الوقت مغبونٌ تماماٍ وسيتعدى الكثير من المؤلفات إن هو إعتمد على الترجمة السلحافئية المحبطة للغة العربية.
ثيمة البندول كما سأطلق عليها تغزو أفكار الكثير من الروائين والكتاب، كما لإدجار بو في قصته : " القط الأسود " و " القلب الي كشف السر " .. وفي بندول فوكو لإيكو رغم أني لم أقرأها في الحقيقة لكن بضع مقالات نقدية عنها كانت كافية لإستنتاج ذلك. بوتزاني عالمٌ بحاله قدر على إقتطاع وقتي بقصصٍ صغيرة وبترجمة سيئة فيما كنتُ ممتعضة مع منتصف رواية مشري : " المغزول " .
***
" الشتاء طيب إذا كانت هناك قدرة على تركه خارج الباب ...... " * عبد العزيز مشري
في المغزول كتب مشري قصة حياته، قافزاً من طفولته حتى المراحل الأخيرة منها حين إستلزم مرضه البتر،
فقضمت المشارط الإبهام فيالبداية، ثم باتت جروح قدميه في حد من العفونة وفقد التروية الدموية التام، حتى بُترت القدمين،
فيصف نفسها في بداية الرواية ونهايتها كحشرة مسحوقة مثلما كان يفعل مع صبية القرية بالحشرات في صغره،
الرواية لا تعدو كونها سيرية " أي من السيرة الذاتية" فحسب، بل هي رواية كتبت بتقنية سردية متقنة تتبع منهج تيار
الوعي ، فلأحداث تتدفق من عقل البطل : " زاهر " ليعطي للقارئ نظرة شمولية رائعة غير منقوصة،بها تطرق لفلسفة
المرض، من وجهة نظره كراوي خاض غمار الحرب مع المرض، حتى تعدى بالرواية عن التجربة الشخصية إلى
الإنسانية، بحيث لم يجعل فكر الرواية يدور حوله ومرضه فقط.، تطرق لعلاقات البطل مع الناس، وحياته مع أسرته في القرية
وكيف كانت، تطرق للحديث عن الحب والوطن في سطورٍ لابد من ذكرها هنا في يومٍ من الأيام. الرواية رائعة وحزينة، أصابتني
بـ الإمتعاض والحزن الكثيف، بعد قراءتي للمقدمة التي كتبها رفيقه الأديب : " علي الدميني " نهايةٍ إلى قصة مشري التي إكتشفتها
بنفسي عبر محركات البحث .. مشري تجربة فريدة ، لابد وأن أخوض غمارها معه عبر كتابٍ آخر من كتبه .
***
كنتُ أريد لهذه التدوينة في الأساس الحديث عن " إبنة الضابط" لألكسندر بوشكين، لكن كقطعة صوفٍ مطاطة إمتد
الحديث إلى كتبٍ أخرى وتشعب فأفضل كتابة قراءتي في التدوينة القادمة عن الشاعر الأسمر ألكسندر بوشكين، الذي
إكتشفت بقراءتي له عالماً آخر لخلفيته الأدبية والثقافية والعرقية .. وووجدتُ أن قصص ألف ليلة وليلة كإبرة في قش،
منغرسة في عالم القص .. إذ كنت أكتشف أثرها الخفي والسحري بعد كل قراءة أو رواية. فـ كمثالٍ فوري وطازج:
هنا لدى بوشكين، وتالياً لدى شافاق في" قواعد العشق الأربعون "..
***
عمار الشريعي مات ..
أُبجل قدرة هذا الرجل على صنع خلفية موسيقية ارتكزت عليها آذاننا المشنفة لسماع مقدمات المسلسلات المصرية
آنذاك،عبرآرابيسك ورأفت الهجان، ورياح الخماسين، أعتقد أني أدين لهذا الرجل الضرير بإستقامة أذني لحدٍ ما ..
حزنت لوفاته، ليرحمه الله.
***
أقرأ الآن : " قواعد العشق الأربعون " لإليف شافاق .
حكاية اخرى تطرقها هذه الكاتبة التركية بعيونها الزرقاء، حبكة الرواية وقوتها كرواية سحرية عن الحب الصوفي
والمتصوفين عبر قصة جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، حكاية تجعل شعر رأسك يقف، عن القوة الخفية
الباطنة واللاماورائيات ، عن ماهية الحب، والإيمان، والعلاقات بين الأرواح .. شاهدتُ وثائقياً عن قصة الرومي و
التبريزي من إنتاج الجزيرة الوثائقية، لكن عالم شافاق وسردها وصورة التبريزي المجسدة في خيالي بعباءته السوداء
وبريق عينيه .. هي أشد وطئاً، هذا فقط إنطباعٌ أولي ..فمازلت تقريباً في منتصفها. فبعد تمام القراءة ستحكى الحكاية كاملة .
تعليقات
إرسال تعليق