التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ندوبُ مدينة




" إتخذَ قرارهُ هذا الصباح ...كان هذا القرارُ في الأصلِ فكرةً تمورُ شأنها كُلَ الأفكارِ في رأسه، تُحدثُ جلبةً خفيفة بعد مورانها وحركتها كُلِ صباح فيملأ النكدُ مزاجه لثوان ٍ، يقتلهُ بكوبِ قهوةٍ مُر،  ومعهُ تموتُ كُل الأفكار كأنها لمّ تكنّ ..
إلا هذه الفكرة التي وثبت على سطح أفكاره فجأة! ثمَّ نَمَت بسرعةٍ طفيلية مخيفة لتُصبح قراراً، ثمَ فعلاً بدأ في تنفيذه .. فارتدى ثوبهُ القطني الأبيض، وضعَ كُلَ زرٍ من أزرار ثوبه في مكانه، التفتَ إلى الخلف ليرى شماغه * المنطرح على السرير، عاود النظر ‘إلى مرآته .. هالهُ كمية الشعر الأبيض الملتهمة رأسه في فوضى شعثه وغبرته وخُصَلهِ الطويلة، اقترب من المرآة حتى التصق أنفه بسطحها، تحسس وجهه وتلمس الشعيرات الشهباء القليلة فوق شفتيه وعلى لحيته وعارضيه، اببتعدَ قليلاً .. رأى نفسه حقيقياً أكثر وإنسانياً أكثر بلا أسمالٍ تعتلي هامته، فأبعد فكرة إرتداء الشماغ عن رأسه .. ولولا أنّ الشرطة لنَ تلاحقه، والجيرانَ لنّ يقذفوهُ بالحجارة لخرج عارياً إلا من خرقةٍ تُغطي سوأته .
فتحَ الباب وخرجَ إلى المدينة، خرج إلى الشارع الأسود، مضى زمانٌ طويل مُذ خرجَ من هذا الباب آخرَ مرة ... هلّ مضى على موتِ أبوه شهر ؟ شهران ؟ سنة ؟ عشرُ سنوات ؟! ... لا يدري، كُلُ ما يعلمه أنه لمّ يخرج بعدَ يومِ الدفن، حتى نسي المدينةَ ونسيته . نسي الناس، والشوارع، وأشكال البيوت.... أخذَ يمشي، ويمشي، دونَ أنّ يدري إلى أين. تحملهُ قدمانِ مفلطحتان تختفي أظافرها الطويلة تحت حذاءٍ جلدي ممتاز اشتراهُ قبلَ أنّ يموتَ والده. هذا الحذاء لمّ يصلُ إلى باطنه رائحةُ الإسفلت الحارّ، والتراب، والطين ... لمّ يصلُ إليه طنينُ أحذيةِ البشر، ولمّ يذُق رائحةَ الرز البخاري، والمثلوثة اليمنية، ولا الكباب، والفول، ولا حتى خبز التميز الحارّ الذي كان يحرصُ عليه في مائدةِ فطوره، هوَ رجلٌ يمشي ... نسيهُ الزمنُ وأصبح خارجَ إطار الأمكنة، حتى نسي المدينة التي يسكنها فخرج ليتعرفَ إليها من جديد .
أخذَ يسيرُ دونَ هُدى .. رأى سياراتٍ مختلفة .. حمراء ، وسوداء، وبيضاء، رأى سيارتٍ للأجرة ( تاكسي )، كاد أنّ يمتطيها لولا أنه لمح باص : ( خط البلدة ) من بعيد، فانتظرَ حتى وقف وامتطى الحافلة الممتلئة ..
اندسَ وسط عرق البشر الغاصة بهم هذه الحافلة ... هُنا بشرٌ ممزقون: فقراء، لصوص، أُجراء أفغان ومن باكستان، عُمالٌ يمنيون، أشخاصٌ مثله يُشبهونهُ، لولا إصبع السيجارة المتوهج الراقص كفتاةٍ سكيرة بين السبابة والوسطى، لولا الشماغ الأحمر المشوه الأطرف، بخيوطٍ سوداء مُتدلية من ذؤابه .
كانت الحافلةُ تلتهمُ شوارع المدينة المكتظة، جيدٌ أنهُ جلس بقرب النافذة ليرى المدينة على حقيقتها عارية من كُل شيء، لا تُغطيها سوى أنوارها البرتقالية الممرضة، مُعكرةَ الهواء بغبارٍ أبيض. وحين اكتملت في ذهنه صورة المدينة التي قاطعها فترةً من الزمن  بعُزلته الإختيارية، لا يسرقُ منه عزلته سوى صوت الدراجة النارية للبقالة القريبة  في رأس الحي الساكنِ فيه، حين توصلُ له الجبن والخبز وقوارير النسكافيه وأكياس شاي الكبوس. حاول أن يعيشِ بهذه الطريقة متناسياً أنه يسكن هذه المدينة ... حتى رآها عبر زجاج النافذة، عادت إليه صورتها المكتظة بُكلِ شيء : بالسيارات، والبشر،والغبار، والمساحات الشاسعة من الأراضي الصحراوية، حينَها أخذت معدته تتلوى وتسرب إلى حلقه الجاف الحمض المعدي، كان على وشك التقيؤ حين عادت الصورُ إليه .
 أخذت إطاراتُ الحافلة تلتهمُ الشوراع المسفلتة بالقارِ الأسود، تنخفضُ، وتعلو .. لتنطلق إلى إلى وجهتها الأخيرة كما أجاب الرجلُ بجانبه عند سؤاله عن الوجهة : " حنّا رايحين وسط البلد " . كان يرى تلك الشوارع كألسنةٍ سوداء لوحشٍ مترامي الأطراف، كانت الشوراعُ تمتدُ كألسنةٍ سواداء طويلة، تلتوي حتى تصل إلى فم المدينة ، مركزها  الذي تنبثقُ منه .." وسط البلد " مثلما قالوا !
صرخ السائقُ :
" يلا هنا وسط البلد "
.. يترجلُ من الحافلة منزلقاً عبر درجاتها الكبيرة،تستقرُ قدماه على الشارع الملآن بالبشر، والدكاكين الكثيرة المصطفة على جانبيه، يتبلبل من الحركة الفوضوية للبشرِ والسياراتِ فيه، وسط الشارع كان تيارا البشر والسيارات يمتزجان على شكل طوابير، تلتصق الأجسام المعدنية بأجسام البشر دونما إشكال، وكأنما تولدت تلك الألفة حتى لا يختنق الشارع المسكين بهم، كانوا كطوفانٍ لا يهدأ .
صورة الشارع اللاهثة، الراكضة نحو قراراٍ ما، تُذكره بتجربة ميليكان لحساب شحنة الإلكترون، تلك التجربة اللعينة كأنها حلم شيطان، حين كانَ مجبوراً على ملاحقة عدداً لا متناهي من قطيرات الزيت المقذوفة من مضخة بواسطة الإلتصاق بعدسة الجهاز العينية حتى يجني علامة المعمل كاملة ً أو نصفها على الأقل .. فلا أحد يضمنُ ماقد يحدث على ورقة الإختبار في الإمتحان التحريري، كانت حدقتا عينيه تضيقان وتلتصقان بالفتحة الضيقة في سبيلِ متابعة قطيرة واحدة، وسط فوضى القطيرات اللاهثة نحو السقوط والإستقرار، تتسارع القطيرات وتتسارع لتبلغ مصبها ومنبعها : مضخة الزيت. كان يرى هولاء الناس بلاهثهم وركضهم كقطرات الزيتِ تلك ... ساعينَ نحو مُستقرٍ ما، كان قرارهم حتماً في منازلهم بعد أن يلتقطوا اللقمة من فم المدينة البرتقالية، كان شأنهم شأن كُل ِ الأجسام يسري عليهم ذات الناموس الفيزيائي : كُل شيء بمقدار، كل ِ الأجسام ساعية للتوازن والإستقرار .
يجد مكاناً ناتئاً من الإسمنت على جانبي الشارع يصلحُ لإتخاذه كمقعد.. يجلسُ عليهِ متخشباً، يرقبُ الناسَ أمامه وعلى جانبيه، في الطرف الآخر المقابل له تماماً على الرصيف يشدُ بصره رجلٌ مترنح، بين أصابعه سيجارةٌ ميتة في توهجها الأخير، كان الفاصلُ الضيق من الشارع  الأسود يجعلُ الرجلَ بيناً بُكلِ تفاصيله، إلا حينما تُقتطع الصورة بسبب مرورسيارة، او رجلٍ أو إمراة تلتفعُ السوادَ أمامه، فيميل برقبته ليتتبع حركة الرجل السكير كما تفضحه مشيته .. يكملُ ترنحه وهو يدخلُ متجراً بلا ابواب لبيع الساعات المُقلدة، يُحادثُ البائع فيه بلهجةٍ مُهشمة، وجملٍ أكلها الخمر .. كان يرتدي ثوباً لا لونَ له بسبب بقع الأوساخ والزيوت، كان قصير القامة،بشاربٍ أسودٍ كثيف، ورأسٍ أيضاً يغطيها شعرٌ كثيف إلا من بقعة صلعاء في المنتصف .
أما وجهه ... آه من وجهه! وجهه مليئ بندوبٍ صغيرة، كأن نجاراً دقَ فيه مئة مسمار ثم التئم ! انفه مائل ومجدور أيضاً،  إحدى منخريه أصغرُ من الآخر، أما أذنيه فواحدة كبقية الخلق وأخرى لاتملكُ صيواناً فقط شحمة الأذن المقضومة المشوهة .
يحادثُ البائع في متجرِ الساعات، يطلبُ مالاً ... يمدُ يديه إلى الزبائن، يستجديهم بوقاحة، يرفعُ عليه أحدُ الزبائن يداً تفوح منها رائحة عطر مختلطة برائحة صابون ، يهب البائع من خلف منضدته ليقذفه بركلةٍ خارج المحل .
يسقطُ وهو يلعن، بذات اللهجةِ المهشمة، يرفعُ رأسه ويقف، تلتقي أعينهما عبر الشارغِ الضيق رغم مرور رتل السيارات والناس، تتوقف أعينهما لحظات .. يبصقُ الرجلُ المخمور ويتجه نحوه .. أما هوَ تتملكه رجفةٌ عظيمة كقطٍ مبلول، يلعنُ المدينةَ في سره، يُطلقُ ساقيه للريح، ويهربُ مصطدماً بالناس .. يقعُ هوَ وعجوزٌ له رائحةُ بول، فمهُ خالٍ تماماً من الأسنان حين ضحك وهو يشيرُ بيده إشارةً وقحة .. يلعنُ المدينةً والناسَ فيها مرةً أخرى، ويهرب .... بعد يومين، بقسمُ جارهم ابو " لؤي " أنه رأى بعدما خرج ابن جاره الوحيد_ الميت مُنذ سنتين _ ولمّ يعدّ، جرذاً غريباً على السور الفاصل بينه وبينهم....يقولُ كذلك : إنه أكبرُ جرذٍ رآه في حياته، وله لونٌ أشهبٌ غريب ونظرةٌ مذعورة...

الرياض

________________
* شماغ : عمامة يرتديها أهلُ الجزيرة العربية
منشور في  مجلة سين   http://www.seeeen.net/texts-0-2068.html:

تعليقات

  1. توفر شركة مدن الاتصالات العديد من الحلول التقنية لحماية تهديدات أمان الشبكة
    https://modn.com/ar/build-a-secure-and-reliable-network-for-your-business-why-and-how?utm_source=falsfaglam&utm_medium=organic&utm_id=N-101

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

( سرير الأشباح ) ... قصة قصيرة

أحسّ بموجة هواءٍ حارة ، عرف أن النافذة جواره فُتَحت لثانية ثم غُلَقت ، حاول أن يرفع رمشيه الباردين ، حاول أن يقاوم ثِقَل المرض الماكث في خلايا جفنيه ... ، حاول ولم يفلح ، تمنى أن يرى الدنيا من نافذة السيارة المُسجّى على مرتبتها .. كان رأسه يقع تحت كوتها مباشرة ، مرة ثانية أحس بشيئٍ حار يلسع وجهه دون أن يشم الهواء ، عَرَفّ أن الشمس نجحت في مقاومة غيمة وتبديد ظلمتها الرمادية . أعياه الإحساس المشلول بالأجساد والأشياء حوله ، تمنى لو يُقَطِعُ جسده ، يفتته إلى قِطّع صغيرة ، ثم يبعثر ذاته في الفضاء عبر النافذة حتى لا يبقى منه سوى دُفقة نور ... روحه المُنهكة ! حينها قد تفضحه رائحة المرض والسرطان الذي سكن هيكله المسكين بضع سنين ، ودمّر حياته ، حتى أنه ذاق الموت أو كاد مراتٍ عديدة... أصطدمت رأسه بالمرتبة الأمامية بفعل القصور الذاتي _ حين توقفت المركبة _ ... ماذا قُلت ؟؟ قصور ذاتي ؟؟ لازالت العلوم الطبيعية تحفر عقلي ، وتُذَكرني بأني كنت مُدرساً محبوباً لمادة العلوم ..احترق جفنّاي، لابد أن الدموع تثابر لمقاومة الصمغ المتلبد بين الرموش .. أحسست بيديّ إبني سعيد وهو يتحسس قدميّ ليطمئن عل...

نجار في رأسي (47)

أقرأ النباتية(١) الآن. كُنت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إليها مُعتبرة قراءتي لها الآن احتفاء بمثابرتي كما يجب: ١٥ كتاباً خلال ٥ شهور بواقع ٣ كتب شهرياً. *** تنتمي هذه الرواية لأدب الكارثة، وهي ثاني رواية  كارثية أقرأها خلال الفترة السابقة بعد رواية خرائط يونس للروائي المصري محمود حسني. في كل مرة أحاول التدوين تفترسني رغبة الحديث عن الخمسة عشر كتاباً! فأتبلبل وأضيع، تجاوزت معضلتي هذه بصعوبة في رمضان، ورغم التدوينة الرمضانية المحشورة محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة إلا أنها أتت كمن يطهو للمرة الأولى  ديك رومي ليلة الميلاد! لم أطهو ديكاً رومياً ولا مرة، إلا أن مشاهد ليلة رأس السنة  في الأفلام والمسلسلات جعلتني أقيس التجربة بخيالي وأقيم صعوبتها العظيمة، والتي لا يمكن مقارنتها بأي طبقٍ محلي أو عالمي أعرفه، ومارأيت من لذة في تلك الليلة من تناول لحمٍ طري كالزبد قد جعلتني ألمس صعوبته وتطلب إحساس الطاهي الرقيق في صنع الطبق... ليلة عيد وطبق مستحيل وثلج! معضلة متشابكة تشبه المشاريع الكتابية التي أؤجلها كل مرة، تدوينات ومقالات أحلم بتدوينها. أنا نجار فقد مهارة قطع...

أَكتُبْ كما لو كُنتْ في التاسع والعشرين من مايو (34)

هذه التدوينة عبارة عن مسودة ، كنت أشطب وأكتب وأضيف فيها طوال شهر مايو، ولمّ تُنشر إلا الآن ... العجيب ما حدث في مايو ! حيث تضاءلت كتاباتي وتدويناتي اليومية الخاصة فيما تصاعدت وتيرة قراءاتي، لتكن العلاقة بين القراءة والكتابة عكسية، لكن الأهم أن يبيقيان ضمن إطار علاقةٍ ما ...هذه التدوينة عبارة عن ماحدث مع القراءات في شهر مايو.. في هذا الشهر واللذي يصادف شهر رمضان ستكون قراءتي مرتكزة على كتابين : أسطنبول: الذكريات والمدينة لباموق، ومن شرفة إبن رشد للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو . *** خمسة أصوات ـ غائب طعمة فرمان قرأت هذاه الرواية بتدفق وإنهماك ثم توقفت قرابة الشهر .. لماذا ؟ لقد ضاع الكتاب في سيارة أحد إخوتي، لأجده بشكلٍ غرائبي داخل درج خزانتي .. صحيح أن رعدة سريعة مرت بي وأنا أتأكد من أن الكتاب هو ذاته كتابي ... لكنني إبتهجتُ جداً حين تأكدت من أنه هو : كتابي البنفسجي الضائع . قراءةٌ أولى لغائب، لقد أهداني أحد الأصدقاء هذه الرواية، طوال القراءة كان يمر بي طيف نجيب محفوظ، إنه يشبه سرد محفوظ إلى حدٍ ماـ خاصة في رواية ميرامار ـ حيث تتعدد أصوات الرواة كما فعل غائب متنقلاً بين خمسة ...